Translate

الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

الطبيعة والإنسان في الفكر المسيحي

الطبيعة و الإنسان في الفكر المسيحي 
في عام 430، عندما مات سان أوغستان، عالم بأكمله كان في حالة تغير، إنه عالم الإمبراطورية الرومانية ومعها عصر الهرطقة الذي لم يكن قد انتهى أيضا. ثمانية قرون فيما بعد، عندما أخذ سان توماس الأكويني ( 1225 ـ 1274 ) ريشته للكتابة ، كانت المسيحية في القرون الوسطى قد وصلت الذروة. بالإضافة لذلك ومن الجانب الآخر للأحداث: النجاح التاريخي للمسيحية الرومانية تم تأكيده وتقويته في الغرب. رغم ذلك، القرن السابع عشر كان مسرحا لأزمة فكرية لم يسبق لها مثيل. حتى هذه اللحظة، الفلسفة كانت قد أصبحت مدجنة في بعضها : فبعد " آباء الكنيسة "، أفلاطون ومن أتى بعده اعتُبروا روادا أو سباقين وعليهم العقيدة اعتمدت ولهم افتقدت. مصير وقدر الفلسفة كان التنازل عن استقلالها " داخل معرفة وحيدة مطلقة منظمة و مرتبة بواسطة الوحي Révélation. ترجمة أرسطو و شارحيه و مفسريه العرب في القرن الثاني عشر زعزعت هذا اليقين أو هذا الوهم. هنا انبثقت و انتشرت كرائحة البارود فلسفة جديدة وثنية، هددت بالاستيلاء على العقل و على الفكر المسيحي. حيث يظهر أن العقل تم توجيهه في مقابل أو مواجهة العقيدة.

هل كان من الواجب تقليص العقل في مواجهة أسلحة العقيدة؟ جرأة سان توماس الأكويني قامت باختيار فعل معاكس ومعارض : في خدمة العقيدة، و بالاعتماد أيضا على العقل. الأكويني يميز ما بين الأنظمة. إنه في البداية عالم باللاهوت لكنه يدرك أيضا الفلسفة. القاعدة هي سهلة و أساسية: يجب متابعة العقل و السير وراءه إلى أكبر بعد ممكن. توماس الأكويني سيعيد التفكير بالقضايا اللاهوتية مستعينا بالعقل الفلسفي وبشكل خاص بالأدوات التي حصل عليها من أرسطو. نظرتان أو اتجاهان هما مرتبطان: هذا يعني، مع احترام الاستقلالية، أن يكون هناك عمل على الاثنين، العقل والعقيدة. 
الأكويني يتقدم خطوة مريحة : بين عقل يأتي من الله ووحي يأتي أيضا من الله، التوافق لا بد أن يتم بالضرورة. لم يتردد بتعنيف الوعي الديني في زمنه لأجل طيّه أو إخضاعه لمتطلبات الفكر الفلسفي. 

الأكوينية، في داخل الفكر الكاثوليكي، هي المحاولة التحديثية الوحيدة التي لم تنجح أبداً كما يقول Etienne Gilson. حجر الزاوية في مشروع الأكويني هي الحكمة التي يعيدها إلى ( somme théologique): "النعمة أو الفضل لا يدمران الطبيعية و لكن يجعلانها أكثر كمالاً، أو يحملانها إلى الكمال". النعمة، العفو، الفضل لا تتعارض مع الطبيعة لأنه، إذا " العالم" هو سيئ، فالخلق هو جيد. الحقيقة التي أوجدت بواسطة الله لها استقلاليتها وحقيقتها، ولها أيضا قيمها الخاصة. طبيعة الإنسان، سيطرته على أفعاله، كل هذا يجعل منه شريكا بجزء من الله. التقليل أو التصغير بالمخلوق هو ازدراء للخالق، أو أن الخالق هو مخطئ. كما نرى علم اللاهوت الأكويني حول الخلق يؤسس منذ ذلك التاريخ الطويل " إنسانية مسيحية" أو نظرية مسيحية في حقوق الإنسان.
 
ماذا تقول الطبيعة بالنسبة للأكويني؟ من أجل معرفة ذلك، إنه يعود لمدرسة أرسطو و التي هي الممثل بامتياز للعقل الطبيعي. الأرسطية Aristotélisme ظهرت كتهديد، و الأكويني أسكنها ووضعها في داخل الفكر المسيحي. ربما سيكون من الزيادة هنا أن نقول : إن الأكويني قام بتنصير " أو أدخل إلى المسحية" أرسطو. دون شك توماس الأكويني أخذ الكثير من أرسطو و الذي يدعوه " الفيلسوف"، ولكن أيضا قام بتصحيحه أو عدَّل بعض الأشياء من أجل أن يدخله في تركيب synthèse مذهبي doctrinal ( ليس بمعنى طائفي ). الأكويني يتفق مع أرسطو من أجل اعتبار كل من ينقطع عن المدينة هو خارج الإنسانية المشتركة. لكن احترامه الكبير لأرسطو لم يمنعه من كتابة : " لا يوجد أي فيلسوف قبل مجيء المسيح، ورغم كل جهوده، استطاع أن يعرف الكثير عن الله". 




إن الفكر السياسي عند توماس الأكويني هو جزء صغير من عمله الضخم. ونستطيع أن نصنفه كفكر كلاسيكي/ مسيحي لأنه هنا كما في مكان آخر، " القديس توماس " ينظر إلى تنظيم و في تركيب واحد: الطبيعي و ما فوق الطبيعي. من جهة إنه يستند بشكل واسع على التقليد الكلاسيكي وبشكل خاص على أرسطو: السياسة فن، ينضم في نظام طبيعي. ومن جهة أخرى إنه ينفصل عنها لأسباب تتعلق بالعقيدة: السياسة تتركز بشكل نهائي في نظام ما فوق طبيعي. 

فيما يتعلق بالقانون الطبيعي، سان توماس الأكويني يأخذ كلمة طبيعة بنفس المعنى الأرسطي، طبيعة كائن هي نهايته. طبيعة الإنسان هي قدره. القانون الطبيعي هو ما يميل الإنسان له وفق طبيعته وما هو معروف لديه بشكل طبيعي وهذا موجود و مسجل في العقل الإنساني. هذه النظرة هي ضمن خط الفلسفة الكلاسيكية، ويمكن وضعها ضمن التقليد المسيحي. القانون الطبيعي يقول سان أوغستان بعد سان بول:" هو قانون متموضع داخل قلب الإنسان، ولا شيء يستطيع مسحه". الأكويني يقدم روايته و رؤيته الأكثر اكتمالا داخل مذهب القانون الطبيعي. القانون الطبيعي يشارك القانون الأبدي ولكن ضمن ما تستطيعه أو تقدر عليه الطبيعية الإنسانية. من أجل أن يكون الإنسان متجه نحو نهايته ما فوق طبيعية، من الواجب إعطائه قانونا آخرا و الذي يشارك وفقه بطريقة سامية في القانون الأبدي : إنه قانون الوحي، بمعنى آخر، وفق شكله الأكمل و المنجز، إنه القانون الإنجيلي. ما هو هذا القانون الطبيعي؟
 
سان توماس الأكويني يميز بين المبادئ المشتركة أو الأولى، الثابتة التي لا تتغير، الشاملة و التي يعرفها الجميع، و المبادئ الخاصة أو الثانية و التي هي معرضة للمتغيرات و التحولات المرتبطة بالظروف وهي غير معروفة لدي الجميع. المبادئ الأولى للقانون الطبيعي لا يمكن برهنتها،إظهارها أو إثباتها فهي حقائق بحد ذاتها. هذه التعاليم أو المبادئ هي للعقل العملي ( المتعلق بالفعل الإنساني )، هي المبادئ الأولى الجلية و المفهومة ( مثال : الكل أكبر من الجزء ) وهذا للعقل العلمي. في أساس السلوك الأخلاقي كما في المعرفة، هناك حقائق عقلية. ولكن ما هي هذه الحقائق؟
 
الحقيقة الأولى، عليها تؤسس كل المبادئ و القواعد الأخرى للقانون الطبيعي وهي : يجب البحث وعمل الخير وتجنب الشر. الخير الذي نتحدث عنه وهو الذي يحمل إليه الإنسان بشكل طبيعي. الأكويني يميز ثلاثة نماذج من الرغبة أو الميل الطبيعي. أولا، الإنسان هو كائن، وبما أنه كذلك، فهو يهدف إلى الحفاظ على نفسه.ثانيا، الإنسان هو حيوان، وبما أنه كذلك، فهو يميل للاتحاد مع الذكور و الإناث ويعتني بالصغار الخ... ثالثا، الإنسان هو حيوان عاقل، وبالتالي هو مدفوع للبحث عن الحقيقة و العيش في مجتمع ثم تجنب السرقة والقتل و احترام والديه الخ... كل هذه المبادئ العامة تضاف على مفاهيم أخرى " ثانية" وهي نتائج قريبة.

المبادئ الثانية تحاول أن تكون قوانين طبيعية و لكن ليس لديها الحقيقة الفورية كما هو في المبادئ المشتركة وتطبيقها يمكن أن يتغير كما تتطلب الأوضاع و الحالات. توماس الأكويني يؤكد دائما : أن المبادئ الأولى هي حاضرة في قلب الإنسان دائما، بينما المبادئ الثانية يمكن أن تمحى من القلب الإنساني بسبب العادات أو الدعاية أو الفساد. ينتج من تحليل القانون الطبيعي أن هذا القانون لا يقدم سوى معايير عامة للسلوك الإنساني، إنه القاعدة الأولى العقلانية للبشر، لكنه ليس نهائيا قاعدة كافية. لا بد إذا من أن يتناسق أو يتشكل مع قانون آخر، إنه القانون الإنساني.
 
في السياسة، حدد توماس الأكويني سؤالا هاما: ماذا يمكننا أن نطرح حول النظام الذي ترتبط أو تدمج به السياسة؟ فيما يتعلق بالنظام الطبيعي، توماس الأكويني يطور بشكل جوهري بعض المواضيع الأرسطية: أولا، البعد المشترك ما بين الجماعات في الحياة الإنسانية. الإنسان هو اجتماعي بالطبيعة، شخصيته يتوجب عليها الكثير للذين بمصطلح حديث سندعوهم " مجتمعه التشاركي"، فهذه الشخصية لا تكتمل إلا داخل مجتمعها، إلا في حالات خاصة. يقول الأكويني : " من بين كل الأشياء المطلوب من الإنسان عملها، وهو الأكثر ضرورة، هم الآخرون المشتركون معه في الإنسانية". ثانيا، الطابع النوعي للتجمع أو المجتمع السياسي. المجتمع الأول الذي ينتمي إليه الإنسان هو العائلة، إنها ضرورية له بالمطلق، لكنها لا تكفي بحد ذاتها. المجتمع السياسي هو العمل أو الصنعة الأكثر تمامية للعقل العملي الإجرائي.

ثالثا،الطابع أو الصفة الطبيعية للسلطة السياسية و المكان المركزي لمسألة النظام السياسي. المدينة هي مركبة من أجزاء متغايرة. سلطة واحدة هي ضرورية لترعى خير الجميع و تحافظ على وحدتهم. كما المدينة، السلطة السياسية هي في طبيعة الأشياء. الشكل الذي هي ممارسة ومنظمة من خلاله هو الموضوع المركزي للفلسفة السياسية. رابعا، تعرف غايات ونهايات السياسة من خلال وصولها إلى الخير المشترك. المدينة هي أكبر من حاصل مجموع أجزائها، خير المدينة هو شيء آخر يختلف عن مجموع الأشياء الخاصة، إنه خير مشترك. 

نظرية الخير المشترك هنا، هي المشاركة الرئيسة الشخصية لتوماس الأكويني. الموضوع مع ذلك هو شائك وصعب لأن التناغم بين هذه الأشكال و الصيغ المبعثرة ليس منطلقا من الذات. الجوهري، يظهر أنه يحمل إلى ما يلي: الخير المشترك هو خير الجميع ولكنه غير منفصل عن خير الأشخاص. الخير المشترك هو أرقى و أسمى من الخاص و الشخصي كما هو الحال في أن الكل هو أسمى من الجزء. لكن هذا الكل ليس كيانا مميزا، يفضَّل على المواطنين، الخير المشترك ليس خير منفصل يبعد و ينحي المواطنين. الخير المشترك أو المنفعة المشتركة ليس خير أو منفعة لأنه في خدمة مجموعة من الأشخاص : فكل واحد يحصل على حياة بالاشتراك مع الآخرين، حياة منظمة مرتبة، كل واحد يحصل على المشاركة في عمل ومهمة مشتركة. رؤية الأكويني حول الخير المشترك يمكن أن تعرَّف، كما يظهر، بالشكل التالي: شكل أو طريقة في الوجود بالاشتراك بشرف في الحياة الجديدة، أي بالحياة الكريمة الشريفة وذات الفضيلة للجمهور أو الجميع. ومن أجل إقامة هذه الحياة الجديدة، سان توماس الأكويني يحدد في De Regno ثلاثة شروط ضرورية أو واجبة: على الجمهور"أن يكون ضمن وحدة المدينة من أجل السلام"، " أن يدار و يحكم و يوجه نحو السلوك الجيد"، و أخيرا، ومن " خلال التطبيق الحكومي، يجب أن يكون هناك كميات كافية من الثروات من أجل حمل الجمهور إلى الحياة الكريمة". إن المنفعة المشتركة الزمنية هي غاية السياسة ضمن النظام الطبيعي. هذه الغاية هي ذاتها منظمة ومرتبة إلى نهاية أخيرة حيث على الكنيسة القيام بذلك. لكن هذا يجب ألا ينقص من استقلالية السياسة، " الحق السماوي الإلهي الناتج عن الرعاية والعناية لا يدمر أو يهدم الحق الإنساني الناتج بدوره عن العقل الطبيعي". إذا ما فوق الطبيعي لا يدمر الطبيعي بل يرعاه، و الرعاية السماوية لا تدمر الطبيعية بل هي إكمال وتتمة لها، والله لا يدمر الإنسان لأن الإنسان جزء من ا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق