Translate

الاثنين، 2 نوفمبر 2020

صعود الاستبدادية في عصور النهضة

 صعود الاستبدادية (الحكم المطلق) داخل الدولةـ الأمة لعصر النهضة.

في بداية القرن السادس عشر،المذهب الاستبدادي كان قد وجد قبل ذلك،تأسس في العصر الوسيط من قبل بابا الكنيسة و الملوك على قواعد لاهوتية،ولاسيما،على قاعدة القانون الإمبراطوري الروماني. هذه القاعدة سوف تنتشر، تتثبت و تأخذ طابعا أكثر تنظيما ضمن سياق "عصر النهضة" حيث ستتأكد الدول ـ الأمم.ولكنها ستصطدم مع تقاليد للاستقلال المحلي ومع مؤسسات تمثيلية هي أيضا موروثة من العصر الوسيط.


أولا ـ الأصول القديمة و الوسطى لمفهوم "السلطة المطلقة" الاستبدادية.

المذهب الاستبدادي هو من أصول قديمة أي يمكن رده للأفكار السياسية التي ظهرت في العصر القديم والوسيط. ولكن نحن سنبدأ دراسة هذا المذهب منذ العصر الروماني لاعتقدنا بوجوده بشكل ممنهج ومنظم أو قائم على قواعد محددة.


1ـ السلطة المطلقة في القانون الإمبراطوري الروماني.

السلطة الفردية للإمبراطور الروماني تم تثبيتها على طول ومر العصور. ففي عصر الإمبراطور Vespasien (69 ـ 79 بعد الميلاد)، الشعب الروماني تخلى عن إرادته في السلطة لصالح الإمبراطور. ولكن بسرعة كبيرة الأباطرة كانوا الوحيدين الذين لديهم حق التصرف فيما يتعلق بالقوانين ووضعها،ثم منح الامتيازات لمن يريدون و تسمية الموظفين الكبار. إذا انتهى تماما ما يمكن أن نسميه حق التشريع للشعب.

2ـ الإرادة البابوية الكاملة.

في أوربا الغربية الإقطاعية،قبل القرن الثالث عشر، لم تطبق فكرة السلطة المطلقة إلى من خلال الباباوات.ففي عام (1076) البابا غريغوار السابع أكد أن "السلطة الكاملة" تعود للبابا: إنه رئيس الكنيسة،يستطيع تشكيل السلطات الزمنية، ويشرع أي قانون يريده. وتأتي هذه السلطة من حيث أن البابا هو "نائب للمسيح". ضمن هذا السياق، البابا له سلطات عادية يتصرف فيها من خلال القوانين القائمة،وسلطات ما فوق عادية تسمح له بالتصرف بشكل مطلق بعيدا عن الالتزام بالقوانين القائمة. ولكن الاستبدادية البابوية لم تتعلق في البداية بالسلطة الزمنية للباباوات، بل حصرا في سلطاتهم الروحية. بعد ذلك تحولت إلى سلطة يدعي فيها البابا أنه يأخذ أوامره مباشرة من الله من أجل الكنيسة ومن أجل المملكة أيضا، وكان هذا في القرن السادس عشر. إذا السلطة البابوية وحتى طبيعة السلطة التراتبية القائمة داخل الكنيسة أصبحت في أوربا العصر الوسيط نموذجا للملكية المطلقة والإدارة المركزية.


3ـ تطبيق البابوية على السلطة الزمنية.

أصبحت البابوية مدرسة بسبب هيبته القائمة والوزن المتنامي للقانون الكنسي. هذه المبادئ سوف تطبيق بعد فترة وجيزة على الملوك. ولا نسى أنه حتى الملوك كانوا يدعون بأنهم ممثلون لله على الأرض. إذا فكرة السلطة المطلقة كانت ماثلة في أوربا منذ وقت طويل. ولكن،في العصر الوسيط، كانت في منافسة مع سلطات أخرى. ضمن هذه الظروف، التغيرات السياسية،الاقتصادية و الاجتماعية التي طبعت عصر النهضة ستساهم في ميل الميزان داخل العديد من البلدان الأوربية لصالح السلطات القوية و المركزية التي اعتمدت الحكم الاستبدادي المطلق.


ثانيا ـ نشؤ الدول ـ الأمم.

1 ـ تحالف السلطات المركزية مع القوى الاجتماعية والاقتصادية الجديدة .

في الواقع ومنذ "الانقلاب البابوي" الكبير ما بين القرنين الحادي عشر و الثالث عشر، الإقطاع بدأ بالتراجع. فالكنيسة مع الممالك القائمة وجدت نموذج الدولة القديمة وعملت على بناء دول كبيرة متمركز على هذا النموذج. وبشكل متدرج،تقدمت في هذا الاتجاه لتضعف استقلالية الإقطاعيين، أيضا الاقتصاد تغير في أبعاده وبنيته ليصبح في جوهر المركزية الجديدة،فمن اقتصاد زراعي ريفي تسيده الإقطاع،إلى اقتصاد منظم تدعمه الاكتشافات الجديدة والسيطرة على الطرق البحرية وفيه مجموعة كبيرة من التجار والصناعيين الباحثين عن استغلال الفرص الجديدة . ضمن هذه الصيرورة الجديدة، أنصار نظام سلطة سياسية قوية، والتي تضفي على نفسها الشرعية من خلال الحكم المطلق، استطاعوا تحقيق مراحل قطعية وجذرية. ولكن هناك اختلافات بين الدول الأوربية تفرض علينا أن نفصل في دراستنا للحكم المطلق في أوربا.


2ـ اختلاف الحالات في الدول الأوربية.

لدينا حالة مختلفة ظهرت في هولندا،حيث النزعة الاستبدادية لم تستطع الوصول إلى إضعاف المؤسسات التمثيلية القائمة منذ العصر الوسيط. حالتان أنتجتا أوضاع " وسطية"، إسبانيا و إنكلترا؛ وبلدان آخران يشكلان خصوصية هما إيطاليا وألمانيا؛ وأخيرا حالة فيه الاستبداد أو الحكم المطلق يظهر بشكل كبير وواضح، إنها الحالة الفرنسية.

في هولندا، بعد سقوط  الدوق Charles le Téméraire الذي أراد بناء مملكة موحدة، النزعة الاستبدادية، ورغم حرب رهيبة، فشلت كليا وهزيمتها شكلت الفرصة لولادة أول أكبر جمهورية أوربية حديثة. في إسبانيا، وفي القرن الخامس عشر، تحدث Alphonse الخامس ( 1396 ـ 1458) عن "القوة الكاملة لسلطتنا الملكية، إنها رائعة ومطلقة". هذه السلطة المطلقة والتي وحدت إسبانيا كانت نتيجة لزواج بين " فرديناند أرغون و أليزابيت كاستيل"، ولتصبح إسبانيا أقوى دولة أوربية.أما في إنكلترا، وبعد نهاية حرب Deux Roses،هنري السابع يصبح ملكا ما بين 1485 إلى 1509 ليبني العائلة الملكية Tudor. اعتمد على الطبقة الوسطى،طور التجارة ودعم المغامرات البحرية. بنى نظاما قويا على مركبات استبدادية. ولكن لا هو ولا خلفه الملك هنري الثامن و إلزابيت الأولى استطاعوا أن يبعدوا أو ينهوا دور البرلمان.

في ألمانيا، وجود إمبراطورية أدى إلى حالة خاصة: الإمبراطورية ضعيفة جدا لا تستطيع القيام بحركة توحيدية،ولكن مجرد وجودها أعاق قيام دولة ألمانية فيدرالية تقوم بالدور بدلا منها. لكن هذا لم يعيق انتصار الحكم المطلق في داخل العديد من الدول الألمانية لاسيما تحت تأثير النظرية اللوثرية luthéranisme. الحالة الإيطالية هي نوعية أيضا بسبب وجود البابوية ودولها.حيث كتب ميكيافلي:"إيطاليا مقسمة إلى خمسة دولة أساسية: مملكة نابولي في الجنوب،دوقية ميلان في الشمال،جمهورية البندقية "فينيس" في الشمال الشرقي،جمهورية فلورنسا والدول البابوية في الوسط. 


في فرنسا. الملكية الفرنسية أخذت ثلاثة أشكال متعاقبة : أولا "إقطاعية"، ثم كانت "معتدلة"، وأخيرا ومع بداية عصر " جان بودان" أصبحت سلطة الحكم المطلق والمستبد.  بداية من القرن الثالث عشر وحتى القرن الخامس عشر، بدأت السلطة الملكية الانتقال من الإقطاعية إلى الاستبدادية absolutisme والتي تستلهم القانون الإمبراطوري الروماني. هذه السياسة اصطدمت بمقاومة البارونات barons وأيضا"برجوازية" المدن. نذكر هنا أن هذا التحول قاده كل من :Philippe Auguste, saint Louis, Philippe le Bel. 


حتى النصف الثاني من القرن السادس عشر، الاستبدادية الفرنسية كانت معتدلة، مع انقسام كبير بين المفكرين، فالبعض يفضل الاستبدادية و الآخر يعارضها، أنا الباقي فيسعى لتلطيفها أو التخفيف منها. ولكن من المؤكد أن إشارات التوجه إلى الحكم المطلق كانت واضحة في السلطة الملكية الفرنسية منذ بداية القرن السادس عشر. وتبين التوجه الاستبدادي مع الملك فرنسوا الأول، حيث أكد بأن السلطات الملكية هي: الدفاع، القضاء، الحكومة والإدارة. تحت حكم لويس الثاني عشر الكاتب Jean Ferrault طالب بسلطات غير محدودة للملك. ونحو عام 1550 مجموعة من الكتاب ظهرت كتاباتهم كدعم واضح للاستبدادية المطلقة ومنهم Charles Dumoulin , Etienne du Bourg , Pierre Rebuffi. 


الاستبداديون و أنصارهم اندفعوا بطرح منطقهم من خلال وضع الملك فوق القانون وأرادوا إبطال مفعول البرلمان وأحكامه السيادية الاستقلالية. في النتيجة،فكرة أن البرلمانات تراقب النصوص الصادر عن الملك وتعترض عليها بالنسبة لهم هي فكرة عبثية ولا يمكن قبولها قانونيا. إذا النزعة الاستبدادية تمركزت بقوة وزادت قوتها بعد عام 1560، في عهد حاكمة Hospital والتي في خطاب شهير لها في عام 1561 أكدت أن :" شخصا واحدا يجب أن يحكم و على الآخرين الخضوع". ولكن في هذا التاريخ اشتعلت الحروب الدينية حيث ستغير طبيعة المشكلة كما سنرى فيما بعد. بمعنى أن تيارات ومذاهب جدية ستظهر أهمها " الدستوريون" constitutionalistes، ومنهم انبثقت اتجاهات "ما قبل ديمقراطية" و أخرى"ما قبل ليبرالية"، ولكن لم ينته وجود المناصرين لتعزيز السلطات الملكية.               

 

بالنسبة لمناصري الاستبدادية، لم يستطيعوا فرض وجودهم بشكل كبير في أوربا القرن السادس عشر والسابع عشر لولا أن العقليات في القرون الوسطى كانت مع تعزيز دور الدولة،

اسرائيل والاكراد وأحلامهم

 إسرائيل والاكراد واحلامهم


قراءة متأنية للخلفية الشخصية للرئيس العراقي ورؤساء الوزراء والسلطة التشريعية لا تستبعد الاستعداد الكامل للتطبيع مع إسرائيل ، والذي يمكن اعتباره "جوهرة" في تاج التطبيع لإسرائيل. لكن هذا التطبيع لن يكون تهورًا عربيًا ، بل سيكون أسيرًا بين البوابة الكردية والبراغماتية التركية.

لم يعد سرا أن إقليم كردستان يفتح تدريجيا الأبواب أمام الاختراق الإسرائيلي ، ويكفي النظر في الجوانب التالية:

1- يتمتع أكراد العراق بالحكم الذاتي الذي أقره الدستور العراقي منذ عام 2003 ، وهم أفضل حالاً بالمقارنة مع باقي الأكراد في المنطقة ، وبدأ مسار تطورهم بمنطقة حظر الطيران. عام 1991 ، مما منحهم فرصة لتعزيز موقعهم في العراق ، وبعد سيطرة الحكومة المركزية على إقليم كردستان الذي بلغ مساحته حوالي 72 ألف كيلومتر مربع (16٪ من مساحة العراق). مع عام 2003 ، تم تأسيس الحكم الذاتي لإقليم كردستان ، ويتراوح عدد سكانه من 5 إلى 5.5 مليون نسمة. مع سقوط النظام العراقي ، شعر الأكراد أن الفرصة سانحة لمزيد من تعزيز "كيانهم". في مراكزها الرئيسية في أربيل والسليمانية وكركوك ودهوك ، ومع الاضطرابات التي أحدثتها داعش في 2014 ، ازداد الدعم الإسرائيلي لقوات البيشمركة الكردية ، بغض النظر عن أعين الولايات المتحدة ، مما فتح شهية إسرائيل للحصول على النفط العراقي من كردستان. . خلال عام 2015 ، استوردت إسرائيل 77٪ من احتياجاتها النقطية من إقليم كردستان (أي ما يعادل حوالي 240 ألف برميل في اليوم) ، وتم نقل النفط عبر خط الأنابيب الرابط بين آبار نفط كردستان وميناء جيهان التركي ، وشركات إسرائيلية مثل فيتول وترافيجورا نسقت الأمر. مع قيام السلطات التركية بنقل النفط العراقي إلى مدينة عسقلان في فلسطين المحتلة ، ويتم نقل بعض النفط بحراً من سفينة إلى أخرى ، ليستمر عن طريق ما تبقى منه إلى أسواق فرنسا وإيطاليا واليونان بشكل رئيسي .

2- أدت التطورات السابقة إلى وهم الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني بإمكانية الانفصال التام ، وتم إجراء الاستفتاء عام 2017 ، وصوت الأكراد بأغلبية ساحقة على الاستقلال عن العراق ، وهنا طفت على السطح هوس تركي بأن "فيروس" الانفصال سيؤدي إلى تفشي المرض في المنطقتين التركية والإيرانية وسوريا ، لذلك أغلقت الدول الأربع جميع المنافذ الكردية ، ولم تستطع إسرائيل إنقاذهم من المأزق ، ولم يبد ترامب التعاطف الكافي معهم إلا في حدود المناورات التي تدور جميعها حول تطويق النفوذ الروسي وخنق سوريا ، وانتهى مشروع الفصل الكردي بالفشل التام ، لا سيما أن الحكومة المركزية استثمرت الوضع ووسعت مناطقها ، خاصة في كركوك وحولها ، و تم إبرام اتفاقية بين الإقليم والمركز بشأن تصدير البترول بتنسيق مشترك مقابل أ زيادة أموال الإقليم في الموازنة العامة المركزية.

3- تقارير غربية متكررة (مجلة نيويوركر ، بي بي سي .. وآخرون) تؤكد قيام جنود إسرائيليين بالإشراف على تدريب قوات البيشمركة ، بما في ذلك الضباط الأكراد من الجيش الإسرائيلي ، حيث يبلغ عدد الأكراد في إسرائيل حوالي مائة وخمسين ألفاً. . استمرت عمليات التجسس والتعاون الأمني ​​منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، وهو ما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن ، وهناك تنسيق بين الموساد والاستخبارات الكردية المسماة "باراستين".

4- من المعروف أن العلاقة بين إسرائيل والأكراد تعود إلى عام 1961 ، وقد أخذت طابعًا رسميًا أعلن في عام 1964 عن طريق كمران علي بدرخان ، واستمرت حتى عام 1973 ، ثم أجهض التمرد الكردي في كردستان العراق بعد الجزائر العاصمة. الاتفاق حيث قام شاه إيران بوقف مساعداته للأكراد.

المشهد الكردي الحالي:

1- يبدو أن كردستان الإيرانية هي الأقل نشاطا في الوقت الحاضر بسبب سيطرة الحكومة الإيرانية المشددة.

2- أما أكراد سوريا ، فهم مقسمون إلى تيارات أهمها وحدات حماية الشعب (YPG) الأقرب إلى حزب العمال الكردستاني التركي (PKK) وقوات سوريا الديمقراطية (SDF).

وبناءً على ما تقدم ، لا يوجد للأكراد حلفاء موثوق بهم في موقفهم باستثناء إسرائيل "وأمريكا داخل الحدود تضيق وتتوسع وفقًا لتطورات الوضع" ، وقد تضحي إسرائيل بهم تحت ضغط من أهم العوامل:

أ- تركيا هي الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل ، وهذا أمر مهم بالنسبة لإسرائيل. قد تستغل إسرائيل علاقاتها الجديدة مع الإمارات لتعويض أي نقص في الإمدادات النفطية منها

الخطاب السياسي للكنيسة

 الخطاب السياسي للكنيسة 


الخطاب "السياسي" للكنيسة، إلى أين يقودنا المذهب السياسي لهذه الكنيسة وخاصة " الرومانية" منها؟

ثلاث أطروحات يمكن مناقشتها ضمن هذا الإطار:

أولا ـ النظام السياسي و النظام الروحي يجب ألا نخلط بينهما و ألا نفصلهما:

من جانب، و بالتطابق مع الحكمة الإنجيلية، مجال السلطة السياسية و مجال السلطة الروحية هما مجالان مختلفان. يوجد زوايا متعددة يمكن النظر منها للقدر الإنساني، كما كتب سان توماس، مع كل واحد الوسائل و الغايات الخاصة به. الدولة لها قوانينها، الكنيسة لديها قوانينها أيضا. لكل مهنته. " في الميدان الخاص بهما، المجتمع السياسي والكنيسة هما مستقلان الواحد عن الآخر" ( Gaudium et spes, 76.3). ومن جانب آخر، الرسالة الدينية للكنيسة لا تتحدد بقطاع واحد خارج الوجود الإنساني، إنها تضم كل الإنسان. المسيحي يبقى دائما مسيحي، يجب ألا يعيش بشكل مزدوج أو بنسختين، بمعنى أن يكون مؤمنا يوم الأحد، وإنسان من غير عقيدة بقية أيام الأسبوع. ضمن هذا المعنى،الكنيسة عليها عمل الكثير حتى تكّون أو " تنفخ" روحا مسيحية في كل مجالات العمل الإنساني، أيضا ضمن هذا المعنى لا يمكنها أن تبقى غير مختلفة عن النظام السياسي و الاجتماعي حتى ولو أن هذا الأخير يتفق أو لا مع متطلبات الشخص أو الأشخاص." إنه غير مقبول،ويخالف الإنجيل، الإدعاء بتحديد الدين ضمن الفضاء الخاص بالشخص. إنه سيكون من التناقض أن ننسى بعده السياسي و الاجتماعي". ( جان بول II ، مدريد، 13 حزيران 1993).

 

كيف يمكن الذهاب مع هاتين الرؤيتين؟ نموذج المصالحة أو التصالح يمكن، كما يظهر، أن يكتب كالتالي: لا يوجد مشروع سياسي مسيحي أو برنامج سياسي مسيحي، ولكن يوجد مبادئ سياسية مسيحية. الكنيسة ليس لديها حلول مجسدة واقعة أو تقنيات سياسية لتقدمها، " إنها لا تقترح أنظمة أو برامج سياسية واقتصادية، أنها لا تظهر كمرجع عند هؤلاء أو الآخرين، شريطة أن تكون الكرامة الإنسانية واجبة الاحترام و على أن يكون لهذه الكرامة و الشرف الإنساني الفضاء و المتسع الضروري لتكملة مهمتهما داخل هذا العالم". (جان بول،المرجع السابق،الصفحة 41).


 موضوع المذهب أو النظرية الاجتماعية للكنيسة لا يكون من أجل تعريف نموذج سياسي/اجتماعي،أو" طريق ثالث" بين الرأسمالية الليبرالية و الجماعية الماركسية collectivisme marxiste ، ولكن هو تثبيت لمبادئ و توجهات، مؤسسة على الوحي Révélation وعلى القانون الطبيعي. 

ضمن هذا المعنى أو الاتجاه، لا يوجد " سياسة مسيحية"، ولكن يوجد " متطلبات مسيحية في السياسة". مع ممارسة و تطبيق الحل، الأفضل سيكون " تعاون صحيّ وسليم " بين الكنيسة والدولة، آخذين بالاعتبار بعض الظروف. ( Gaudium et spes, 76.3 ). 


ثانيا ـ السياسة هي " فن نبيل":

السياسة هي فن لأنها في نفس الوقت مخصصة لغايات جوهرية و تابعة لظروف زمنية و مكانية. ولكن ما هي هذه الغايات؟ وفية لتقليدها و بشكل خاص لسان توماس، الكنيسة تذكر بشكل دائم بثلاثة مبادئ أساسية:

1 ـ السلطة السياسية هي خدمة، موجه إلى للخير المشترك وبشكل قاطع إلى خير الأشخاص.السياسة ليس شيء آلي ميكانيكي، لا تختزل إلى تقنيات، إنها فعالية أخلاقية تأخذ على عاتقها ظروف الحياة المشتركة و العمل، مستندة إلى الحرية و جوهر ومعنى المسؤولية، وضمن معنى الكمال الإنساني. المرجع هو خير موضوعي، إنه الإنسان الكامل، وليس جزء من الإنسان. حيث أن الإنسان البدائي حصل عليه. 

2 ـ النظام السياسي يجب أن يحترم بل يرتقي ويرتفع بالبعد " التجمعي" للحياة الإنسانية. مجتمع منظم جيدا ليس تراكم agrégat من الأفراد المعزولين تحت سلطة الدولة. بل يضم مستوى وسطي " وساطة"، إنه تجمعات مشاركة كل وفق مقياس معين. هذه " الأجسام الوساطة " لها أشكال مختلفة: العائلات "وهي الخلايا الأولى و الحيوية للمجتمع"، البلديات، الجمعيات و المنظمات، النقابات..الخ على أن تكون جميعها من تجمعات مختلفة من الأشخاص، هذه التجمعات تهدف لتحقيق فضيلة الاتصال و الارتباط الاجتماعي القوي وفي نفس الوقت تسمح لكل فرد بأخذ جزء ناشط وفعال من الحياة المشتركة. داخل الدولة، " الأجسام الواسطة" و الأشخاص، توزيع المهارات و الكفاءات يجب أن يخضع لمبدأ التناوب الذي وضعه Pie XI في عام 1931،بشكل دائم يتم تكراره : سلطة القرار يجب أن تمارس على أكبر قدر ممكن من قبل الناس. خير الإنسان يتطلب أن يكون هذا الإنسان لديه مسؤولياته، و أن يكون فاعلا مسؤولا، وليس موضوع أو شيئا سلبيا.


3 ـ الثابت في كرامة الإنسان لديه بعد سياسي/اجتماعي. تنظيم المجتمع يجب بطريقة لا تقلب العلاقات و الوسائل في النهاية: حيث أن الدول وجدت من أجل الإنسان و ليس الإنسان موجود من أجل الدولة، الملكية وجدت أيضا من أجل الإنسان وليس العكس،العمل أو الاستهلاك هما في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمتهما، العلوم التقنية و التكنولوجيا هي منظمة و موجهة لخير الإنسان وليس العكس. الكنيسة تنبذ كل التفسيرات التي تُخضع الوجود الإنساني لمتطلبات جزئية أو إخضاعية كما في اتجاه économisme أو technicisme. الاتجاه أو المذهب الاجتماعي للكنيسة ولد مع Rerum Navarum ( 1891) حيث Léon XIII تحدث عن الظرف القائم للتكتلات العمالية. اليوم، القائمون على العقيدة يلتزمون أو يرتبطون قبل كل شيء باللامساواة التي توجد في هذا العالم. " القضية الاجتماعية هي اليوم عالمية" ( Paul VI ،Populorum Progressio ،1967، المدخل).


 الكنيسة تدعو إلى تطور وتنمية جوهرية و التي لا تفصل الاقتصاد عن الإنسانية و أن تحقق متطلبات و حقوق جميع الأشخاص. أن يكون لديك و أن تملك هذا شيء مهم ولكن على أن يكون ذلك في خدمة الكائن الإنساني.

بناءا على هذه المبادئ، الكنيسة تطلق العديد من التقييمات و الأحكام فيما يتعلق بالأنظمة لكنها لم تقف أبدا لصالح هذا أو ذاك الشكل من الحكم. في مواجهة الديمقراطية الليبرالية، الكنيسة تبين في نفس الوقت انتقادات و تقييمات لصالح هذه الديمقراطية. يجب التمييز هنا: القائم على العقيدة" يقدر" النظام الديمقراطي كضامن لمشاركة المواطنين في اختياراتهم السياسية، حيث يظهر مثل الليبراليين دعاة حقوق الإنسان، لكن أيضا يطعن في ديمقراطية مطلقة و كل ليبرالية راديكالية : إرادة الشعب لا تعود لها الشرعية الوحيدة في القرار، أيضا إرادة الفرد ليست الوحيدة التي تبرر مسيرة الحياة. المعيار الأساسي هو احترام الخير المنشد أو المقصود. الإرادة الإنسانية ليست صاحبة سيادة، العقل الإنساني ليس هو مقياس و قاعدة الأشياء. هنا يكون دائما "حجر عثرة" pierre d’achoppement بين الفكر الكاثوليكي و الفكر الحديث ( على الأقل في صيغته النقية الخالصة ). 


الكنيسة تطرح العديد من المبادئ و التوجهات. تدعو أولئك الذين يمارسون مهنة السياسة و الذين اختاروها إلى هذه المبادئ. و المهم أولا، هي المعطيات الأخلاقية: أن لا يكون الشعب كتلة من البشر، أن يكون رجال السياسة أصحاب ثقة ويسعون نحو الكمال، أن يكون قلقهم الأول هو الخير المشترك. و المهم ثانيا، الأهلية و الجدارة أو العلم و المعرفة بالحكم وظروفه و حالاته الخاصة أي بمعنى آخر " الانتباه و الحذر". المسيحيون مدعوون لإعطاء القدوة و المثال. بما أنهم مواطنون، عليهم التصرف ليس باسم الكنيسة أو بإقحامها ولكن باسمهم الخاص ( في الفعل المجسد و الواقع، التعددية السياسية هي شرعية). بشكل آخر للقول، الكنيسة تنسب إليها التمييز أو التفريق الذي قام به Jacques Maritain بين " التصرف كمسيحي" و " التصرف بالمسيحية". استلهام المسيحية يجب أن يكون حاضرا بشكل دائم ولكن لا يوجد برنامج سياسي مسيحي.


ثالثا ـ السياسة لديها حدودها لكن التاريخ مفتوح للفضيلة والعفو. 

الذي نستطيع أن نتأمله من السياسة هو بالطبيعة موجود لكنه لم يتحقق. نظام السياسة لن يكون لديه نهائيا قيما مطلقة، الرجاء أو الأمل المسيحي هو في جانب آخر أو أبعد من السياسة، بل أبعد من الزمن.ضمن نظامها الخاص، السياسة نذرت نفسها لعدم الكمال. إذا وجدت " بنىً للخطيئة " ، لا يوجد أنظمة سماوية.( جان بولII). في نهاية المطاف، كل شيء يعتمد على الإنسان و الإنسان منقسم في داخله لأن طبيعته مجروحة بالخطيئة. الشر داخل الإنسان، " الصراع ضد قوى الظلام والجهل تمر خلال كل التاريخ عبر الإنسان" وهذا سيستمر إلى نهاية الأزمان" أما المدينة الكاملة ليست من هذا العالم.

من جانب آخر وبشكل غير مرئي، الفضيلة موضوعة في التنفيذ داخل التاريخ و " المملكة" Royaume بالحرف الكبير، هي مسبقا موجودة فوق هذه الأرض. المدينتان مختلطتان بشكل خفي أو غامض في هذا العالم. لهذا السبب، إذا كان من الواجب التمييز بعناية التقدم الإنساني نحو أو بتدرج باتجاه " حكم المسيح"، هذا التقدم هو مع ذلك مرتبط في جزء منه مع " المملكة " ضمن مقياس حيث " يأنس" humanise الحياة المشتركة للبشر. ( Gaudium et spes, 39.2). هذه " الخميرة " الإنجيلية تقرب الإنسان من الله (ونعتقد أن جميع الأديان تحتاج لهذه الخميرة)، إنها تقرب أيضا البشر من بعضهم أو فيما بينهم. 

كذلك الكنيسة الكاثوليكية تجهد لتمسك بطرفي السلسلة، و أن تقدم ما عليها في المدينتين. إنها تعلم في نفس الوقت عدم كفاية العالم وعظمة الخلق، أسبقية الروحي و استقلالية السياسة، السير الغامض للتاريخ المقدس و فضائل النظام الطبيعي، ثم ضرورة وجود السلطة. المذهب الكاثوليكي يتناقض مع كل راديكالية أو مع كل طوباوية سياسية، إنه راديكالي في دعوته للأشخاص، إنه يقول بحكمة القانون الطبيعي. البعدان لا يتعارضان، الفضيلة والنعمة تعلي و ترفع الطبيعة، لكن تنظيمهما هو في حالة تجاذب وتقلب بين القطبين. أو ( بشكل مبسط) : الذي يجسده سان أوغستان و الذي تجسد من خلال سان توماس. التوتر بين المدينتين هو موضوع تعايش أو جوهر مشترك في الفكر الكاثوليكي.

القوانين بين السماء والارض في الفكر المسيحي

 القوانين بين السماء والأرض في الفكر المسيحي

إن التنظيم الواقع والمجسد للمجتمع يبين ويوضح القانون الإنساني. هذا القانون يجب أن يستند دائما ويشتق من القانون الطبيعي. هذه القاعدة لا يمكن المساس بها، و لكن لا تطبق بأي مكان بشكل ميكانيكي، بل يجب أن تضم خاصتين: الأولى هي أن القانون الإنساني له صفات و طبائع خاصة، هو قانون وضعي عندما القانون الطبيعي يكون قانونا أخلاقيا. إنه يميَّز لأنه لا يتعلق إلا بالنظام الخارجي وهو يتلاءم مع الإجبار أو الإرغام. القانون الوضعي لا يتم خلطه مع القاعدة الأخلاقية. الخاصة الثانية : الفعل السياسي هو بطبيعته خاص و جائز أو محتمل. العقل الإجرائي أو العملي عليه أن يحصل على النتائج من المبادئ العامة داخل الظروف و الشروط النوعية في حالة واقعة مجسدة. القسر أو الإرغام الحاصل من أجل الوصول للخير و المنفعة يمكن أن يحدث شرا أكثر من الخير. هنا سان أوكستان لاحظ أن القانون الزمني عليه التسامح مع بعض الشر. ويؤكد سان توماس ذلك بالقول :"إن على السياسة أن تلتزم بمبدئها محدثة أقل شر ممكن".

 



إن طروحات سان توماس حول هذا الموضوع أشعلت جدلا ونقاشا كبيرا. الصعوبة الأساسية تأتي من أن سان توماس يحدد شيئين أساسيين مهمين : الأول، أن البشر يجب أن يحكموا،ولكن أن يحكموا ضمن نطاق وحدود المنفعة المشتركة،هذا يعني من جهة أخرى أن يحكموا من قبل أناس خيّرين. هنا سان توماس يتبع أرسطو ولكن تفكيره أكثر تشددا و انغلاقا. أما في كتابه De Regno،إنه يأخذ ويضم التقسيم الأرسطي للأنظمة الستة، ولكن يعود وبسرعة ليشدد التحليل حول هذا الموقف: الملكية من جهة، الأشكال المختلفة من الطغيان من جهة أخرى.


مصطلح " الملك" يجب أن يفهم ويدرك بمعنى يتعلق بجنس الكلمة ونوعها وشموليتها: إنه يشير إلى شخصية واحدة في مجموعة وربما يكون أميرا، إمبراطورا أو رئيسا شريطة أن يحكم للخير و المنفعة المشتركة.إذا فقدت هذه الشخصية غاية السياسة التي هي الخير المشترك و التي هي تشترط شرعيته وشرعية سلطته، فهي ليست شخصية زعيم أو قائد، إنها تصبح شخصية طاغية. الطغيان يمكن أن يمارس من قبل مجموعة صغيرة أو من قبل الشعب نفسه وخاصة عندما المجموع يحكم ويضطهد أقلية صغيرة. سان توماس ينظم في نفس الفئة كل الأنظمة الفاسدة. في الخلاصة، يوجد بشكل أساسي نموذجين من الأنظمة: الأنظمة المنتظمة و الحسنة، والأنظمة الغير منتظمة و السيئة. والقاعدة يتم الحصول عليها من القانون الطبيعي. الشيء الثاني الذي يحدده سان توماس، الذي يجب أو ينبغي كما جاء في كتابه ( somme théologique ) ، أن الجميع لديهم جزء في الحكم أو الحكومة. إنه يلتزم بمبادئه العامة. يدعو إلى تفادي كل الطغيان والأنظمة الطاغية و بكل أشكالها، وعلى الفعل السياسي أن يُمارَس بالشراكة. في النهاية السياسة وفق سان توماس هي : " فن أفضل الممكن".


المسيحية أعطت وجودا لمجتمع له قدر ومصير شامل: إنه الكنيسة. الكنيسة هي مجتمع من المؤمنين مفتوح ومن غير تمييز لجميع البشر. إنها مؤسسة،أنشئت مع تكليف الرسل والمبشرين،وقد بنيت و أصبحت مركزية بشكل متدرج. المجتمع الكهنوتي أصبح مجتمع حقوق، من خصائصه وجود مؤسسة تراتبية، إنها المؤسسة الكهنوتية. إذا كيف تم تنظيم العلاقات بين الكنيسة ( كمجتمع وكمؤسسة ) و بين السلطة السياسية ؟


خلال القرون الثلاثة الأولى، المسيحيون احتفظوا بموقف يطابق المذهب أو الطريقة المثبتة من قبل سان بول:احترام مطلق الإمبراطورية،مقاومة الأنظمة التي تحمل ضررا للمعتقد بالله الحقيقي.لكن الدين المسيحي الذي هو أقلية و مضطهَدة أصبح في القرن الرابع الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية،ثم فيما بعد الدين المجمع عليه تقريبا في الغرب أثناء العصور الوسطى. القضية و السؤال العملي للعلاقات بين السلطة الزمنية و السلطة الروحية تطرح بطرق مختلفة: لا يعني نهائيا الحفاظ على استقلال الروحي في مواجهة متطلبات السلطة الزمنية ولكن مصالحة أولوية الروحي و أسبقيته مع استقلالية الزمني.


 بشكل آخر،لا يعني نهائيا معارضة بين حقوق الله و مع القيصر الوثني، ولكن تعريف الحقوق والواجبات للقياصرة المسيحيين وعلاقتهم مع الكنيسة.إذا هو افتتاح لتاريخ طويل للعديد من الإثارات لها أوجه متعددة. ثلاث أفكار عامة يمكن فصلها هنا : استمرار وديمومة ثنائية السلطة، الغموض في الأنظمة تحت شكل النزعات في الأهلية و الاختصاص،الغموض في الأنظمة تحت شكل تقليدية الدولة وصرامتها.

مبدأ ثنائية السلطة لم يكن موضعا للنقاش.المجتمع المسيحي تمت إدارته وحكمه بنوعين من سلطات القضاء المنفصلة، وفق شرعيتين متمايزتين للقوانين. إذا وجد بشكل دائم سلطتان قضائيتان مختلفتان في طبيعتهما. حاول الباباوات دائما إخضاع السلطة السياسية لكنهم لم يستطيعوا ذلك نهائيا.المؤسسة السياسية و المؤسسة الكهنوتية تبقيان غير مرتبطتين. هذا الانفكاك أدى إلى خصوصية الغرب القروسطي، إذا ما قورن بالمناطق الأخرى في العالم، العالم الإسلامي و الإمبراطورية البيزنطية.

 

من جانب آخر،العلاقات بين السلطتين طُبعَت على مر تاريخ العصر الوسيط بالنزعات و الخصومات حول الاختصاص و الأهلية. وهمُ عالم مسيحي قائم بشكل دائم،فكرة المسيحية حيث الاختلاط بين السياسي و الديني، المقارنة عند سان أوغستان بين المسيحية و " مدينة الله"، كل هذا سيعبر الحدود. المسيحية القروسطية كانت نظاما سياسيا/دينيا له رأسين،فيما بعد سيستمر بمنافسة طويلة ونزاع أطول بين الكهنوت Sacerdoce و بين الإمبراطورية.


في وقت من الأوقات، " شارلمان " حاول توحيد المسيحية الغربية تحت سلطته الخاصة والتي في نفس الوقت هي زمنية وروحية ( حيث اعتبر نفسه زعيما دينيا محاولا أخذ جزء من السلطة الداخلية للكنيسة ). فيما بعد في القرن السادس حتى السابع عشر،حاول الباباوات بجهد كبير إقامة تفوقهم السلطوي. روما مَنحت حق تجاوز وعزل الأباطرة، وذلك للسلطتين الروحية ممثلة بالكنيسة والزمنية ممثلة بالسلطة السياسية ولكن تحت وصاية الكنيسة. هذا التنافس بين السلطتين سيدور في النهاية وبشكل إجباري باتجاه تقوية سلطة الملوك.في نهاية العصر الوسيط، الملكية الوطنية تم فرضها كشكل سياسي. الغموض في الديني والسياسي لم يتوقف : الدين بقي صاحب سلطة ونفوذ في القرن السابع و الثامن عشر،و منظرو الملكية المطلقة سيستندون في تنظيرهم إلى نظرية الحق الإلهي. بعد الإمبراطورية القسطنطينية،وبعد الإمبراطورية القروسطية، الملكية الوطنية ( على الطريقة الفرنسية ) ادعت الاختيار و العناية الإلهية. 

في العصر الوسيط وبعد ذلك، النزاعات استمرت في بعض الأحيان كنزاعات عائلية.مجتمع المؤمنون اختلط بالمجتمع السياسي مع قوة وصرامة الدولة.فالكنيسة تُعَلّم كما كانت تفعل دائما، مع حرية اختيار العقيدة ولكنها عمليا أو إجرائيا على أرض الواقع لم تتناغم مع ما تزعم به. فكرة " الجمهورية" المسيحية وبعدها الأمة المسيحية بررت تجييش وتحريك السلطة السياسية في خدمة وحدة العقيدة. " اليد الزمنية العلمانية " ضربت الانشقاقات أو الانفصال عن الكنيسة الرومانية و الهرطقيات. فقوة القيصر كانت مستخدمة في خدمة شؤون الله. فكرة " الدين يجب أن يكون حرا" هي " خطأ إلحادي أو من الزندقة" كما جاء في كتاب Bossuet (السياسة مستمدة من الكتب المقدسة، الجزء السابع 1709 ).

 

الصيغة ( لاهوتي / سياسي ) كانت سلطوية. وتمت ترجمتها على شكل اضطهاد ديني، وتسببت بعد محاولات" الإصلاح" بحروب أهلية خطيرة. هذه الحروب الدينية و الاضطهاد الذي تلاها ساهمت بشكل كبير في تطور الفكر السياسي الحديث. ردة الفعل كانت بعد هذه الحروب كالتالي : الدين يقسم ويفرق، السلطة السياسية تضطهد الدين، في النتيجة الدين يجب أن يبعد عن السياسة. الكنيسة الكاثوليكية، و التي اعتقدت أنها نجحت بأن أصبحت كنيسة الدولة، وُجدت من الآن فصاعدا في موقع دفاعي. 

المحدّثون Modernes التزموا الصراع ضد السلطة السياسية للكنيسة الكاثوليكية وقد وصلت النتيجة إلى النجاح. الكاثوليكية فقدت في بلاد " الكنيسة اللاتينية" موقعها كدين للدولة، الكنيسة الرومانية أجبرت على ترك موقعها الزمني، المبدأ الحديث للتحييد الديني للدولة أصبح القاعدة العامة،المجتمعات تعلمنت أو تحول  المجال الكنسي إلى دنيوي Sécularisation . متضررة داخل مواقعها الزمنية،وفي إمبراطوريتها الروحية، ضحية أيضا في بعض الأحيان للسياسة المعادية للدين ( اضطهاد الثورة الفرنسية لها )، أو كما في ألمانيا كما تسمى Kulturkampf ، السياسة " المعادية للكهنوتية" في الجمهورية الثالثة الفرنسية، الكنيسة تمسكت على طول القرن التاسع عشر وبعد ذلك أيضا بالارتباط بالنموذج الماضي: المسيحية أو المدينة الكاثوليكية بمعنى آخر النظام السياسي / ديني.


الأشياء بدأت بالتبدل مع بابا الفاتيكان Pie الثاني عشر( انتخب في عام 1939). يوحنا الثالث و العشرون تابع التغيير، وتم تكريس التطور من قبل مجلس الفاتيكان الثاني ( 1962 ـ 1965 ). مقياس التغيير كان في غاية الحساسية ومتنازع فيه. النصوص الرومانية هي في الكثير من الأحيان صعبة في الشرح و التفسير وذلك بسبب عمومية العديد من الصيغ و الأشكال،وبسبب أيضا الممارسة التقليدية للتيار " التوفيقي" Concordisme بين الكتب المقدسة و نتائج التقدم العلمي ( كما يحصل في الإسلام اليوم ). مع ذلك، يظهر أنه و بشكل أكيد أن النصوص التصالحية تطبع وتؤشر إلى تبدل و تغير مهم في المذهب. أي تبدل و أي تغير؟


الكنيسة أُبعدت عند النموذج السياسي القروسطي. المثالي السياسوـ ديني للمسيحية، مقارنة ومشابهة المجتمع السياسي بالمجتمع الديني، نظرية السلطتان، مع صرامة الدولة و الدعوة إلى الزمني تم التغيير، الدنيوي و العلماني يبدو أنها مصطلحات قابلة للحياة ، فعاشت و استمرت. التجديد الأساسي بالنسبة للتعليم التقليدي يتعلق بالحرية الدينية و الذي يكرس كرامة البشر وحريتهم : لا أحد لأسباب دينية يجبر على التصرف ضد عقيدته أو يمنع من ممارستها.الكنيسة من الآن فصاعدا هي جزء من هذه الثقافة الحديثة والتي هي الجوهر الأكثر قوة ووضوحا لكرامة الشخصية الإنسانية. إذا الكنيسة تم فصلها عن نموذج أخذته وورثته عبر التاريخ. أما بالنسبة للمبادئ الأساسية تبقى وفية لتعليمها التقليدي. ولكن ماذا يقول هذا التعليم في النهاية ؟

الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

الطبيعة والإنسان في الفكر المسيحي

الطبيعة و الإنسان في الفكر المسيحي 
في عام 430، عندما مات سان أوغستان، عالم بأكمله كان في حالة تغير، إنه عالم الإمبراطورية الرومانية ومعها عصر الهرطقة الذي لم يكن قد انتهى أيضا. ثمانية قرون فيما بعد، عندما أخذ سان توماس الأكويني ( 1225 ـ 1274 ) ريشته للكتابة ، كانت المسيحية في القرون الوسطى قد وصلت الذروة. بالإضافة لذلك ومن الجانب الآخر للأحداث: النجاح التاريخي للمسيحية الرومانية تم تأكيده وتقويته في الغرب. رغم ذلك، القرن السابع عشر كان مسرحا لأزمة فكرية لم يسبق لها مثيل. حتى هذه اللحظة، الفلسفة كانت قد أصبحت مدجنة في بعضها : فبعد " آباء الكنيسة "، أفلاطون ومن أتى بعده اعتُبروا روادا أو سباقين وعليهم العقيدة اعتمدت ولهم افتقدت. مصير وقدر الفلسفة كان التنازل عن استقلالها " داخل معرفة وحيدة مطلقة منظمة و مرتبة بواسطة الوحي Révélation. ترجمة أرسطو و شارحيه و مفسريه العرب في القرن الثاني عشر زعزعت هذا اليقين أو هذا الوهم. هنا انبثقت و انتشرت كرائحة البارود فلسفة جديدة وثنية، هددت بالاستيلاء على العقل و على الفكر المسيحي. حيث يظهر أن العقل تم توجيهه في مقابل أو مواجهة العقيدة.

هل كان من الواجب تقليص العقل في مواجهة أسلحة العقيدة؟ جرأة سان توماس الأكويني قامت باختيار فعل معاكس ومعارض : في خدمة العقيدة، و بالاعتماد أيضا على العقل. الأكويني يميز ما بين الأنظمة. إنه في البداية عالم باللاهوت لكنه يدرك أيضا الفلسفة. القاعدة هي سهلة و أساسية: يجب متابعة العقل و السير وراءه إلى أكبر بعد ممكن. توماس الأكويني سيعيد التفكير بالقضايا اللاهوتية مستعينا بالعقل الفلسفي وبشكل خاص بالأدوات التي حصل عليها من أرسطو. نظرتان أو اتجاهان هما مرتبطان: هذا يعني، مع احترام الاستقلالية، أن يكون هناك عمل على الاثنين، العقل والعقيدة. 
الأكويني يتقدم خطوة مريحة : بين عقل يأتي من الله ووحي يأتي أيضا من الله، التوافق لا بد أن يتم بالضرورة. لم يتردد بتعنيف الوعي الديني في زمنه لأجل طيّه أو إخضاعه لمتطلبات الفكر الفلسفي. 

الأكوينية، في داخل الفكر الكاثوليكي، هي المحاولة التحديثية الوحيدة التي لم تنجح أبداً كما يقول Etienne Gilson. حجر الزاوية في مشروع الأكويني هي الحكمة التي يعيدها إلى ( somme théologique): "النعمة أو الفضل لا يدمران الطبيعية و لكن يجعلانها أكثر كمالاً، أو يحملانها إلى الكمال". النعمة، العفو، الفضل لا تتعارض مع الطبيعة لأنه، إذا " العالم" هو سيئ، فالخلق هو جيد. الحقيقة التي أوجدت بواسطة الله لها استقلاليتها وحقيقتها، ولها أيضا قيمها الخاصة. طبيعة الإنسان، سيطرته على أفعاله، كل هذا يجعل منه شريكا بجزء من الله. التقليل أو التصغير بالمخلوق هو ازدراء للخالق، أو أن الخالق هو مخطئ. كما نرى علم اللاهوت الأكويني حول الخلق يؤسس منذ ذلك التاريخ الطويل " إنسانية مسيحية" أو نظرية مسيحية في حقوق الإنسان.
 
ماذا تقول الطبيعة بالنسبة للأكويني؟ من أجل معرفة ذلك، إنه يعود لمدرسة أرسطو و التي هي الممثل بامتياز للعقل الطبيعي. الأرسطية Aristotélisme ظهرت كتهديد، و الأكويني أسكنها ووضعها في داخل الفكر المسيحي. ربما سيكون من الزيادة هنا أن نقول : إن الأكويني قام بتنصير " أو أدخل إلى المسحية" أرسطو. دون شك توماس الأكويني أخذ الكثير من أرسطو و الذي يدعوه " الفيلسوف"، ولكن أيضا قام بتصحيحه أو عدَّل بعض الأشياء من أجل أن يدخله في تركيب synthèse مذهبي doctrinal ( ليس بمعنى طائفي ). الأكويني يتفق مع أرسطو من أجل اعتبار كل من ينقطع عن المدينة هو خارج الإنسانية المشتركة. لكن احترامه الكبير لأرسطو لم يمنعه من كتابة : " لا يوجد أي فيلسوف قبل مجيء المسيح، ورغم كل جهوده، استطاع أن يعرف الكثير عن الله". 




إن الفكر السياسي عند توماس الأكويني هو جزء صغير من عمله الضخم. ونستطيع أن نصنفه كفكر كلاسيكي/ مسيحي لأنه هنا كما في مكان آخر، " القديس توماس " ينظر إلى تنظيم و في تركيب واحد: الطبيعي و ما فوق الطبيعي. من جهة إنه يستند بشكل واسع على التقليد الكلاسيكي وبشكل خاص على أرسطو: السياسة فن، ينضم في نظام طبيعي. ومن جهة أخرى إنه ينفصل عنها لأسباب تتعلق بالعقيدة: السياسة تتركز بشكل نهائي في نظام ما فوق طبيعي. 

فيما يتعلق بالقانون الطبيعي، سان توماس الأكويني يأخذ كلمة طبيعة بنفس المعنى الأرسطي، طبيعة كائن هي نهايته. طبيعة الإنسان هي قدره. القانون الطبيعي هو ما يميل الإنسان له وفق طبيعته وما هو معروف لديه بشكل طبيعي وهذا موجود و مسجل في العقل الإنساني. هذه النظرة هي ضمن خط الفلسفة الكلاسيكية، ويمكن وضعها ضمن التقليد المسيحي. القانون الطبيعي يقول سان أوغستان بعد سان بول:" هو قانون متموضع داخل قلب الإنسان، ولا شيء يستطيع مسحه". الأكويني يقدم روايته و رؤيته الأكثر اكتمالا داخل مذهب القانون الطبيعي. القانون الطبيعي يشارك القانون الأبدي ولكن ضمن ما تستطيعه أو تقدر عليه الطبيعية الإنسانية. من أجل أن يكون الإنسان متجه نحو نهايته ما فوق طبيعية، من الواجب إعطائه قانونا آخرا و الذي يشارك وفقه بطريقة سامية في القانون الأبدي : إنه قانون الوحي، بمعنى آخر، وفق شكله الأكمل و المنجز، إنه القانون الإنجيلي. ما هو هذا القانون الطبيعي؟
 
سان توماس الأكويني يميز بين المبادئ المشتركة أو الأولى، الثابتة التي لا تتغير، الشاملة و التي يعرفها الجميع، و المبادئ الخاصة أو الثانية و التي هي معرضة للمتغيرات و التحولات المرتبطة بالظروف وهي غير معروفة لدي الجميع. المبادئ الأولى للقانون الطبيعي لا يمكن برهنتها،إظهارها أو إثباتها فهي حقائق بحد ذاتها. هذه التعاليم أو المبادئ هي للعقل العملي ( المتعلق بالفعل الإنساني )، هي المبادئ الأولى الجلية و المفهومة ( مثال : الكل أكبر من الجزء ) وهذا للعقل العلمي. في أساس السلوك الأخلاقي كما في المعرفة، هناك حقائق عقلية. ولكن ما هي هذه الحقائق؟
 
الحقيقة الأولى، عليها تؤسس كل المبادئ و القواعد الأخرى للقانون الطبيعي وهي : يجب البحث وعمل الخير وتجنب الشر. الخير الذي نتحدث عنه وهو الذي يحمل إليه الإنسان بشكل طبيعي. الأكويني يميز ثلاثة نماذج من الرغبة أو الميل الطبيعي. أولا، الإنسان هو كائن، وبما أنه كذلك، فهو يهدف إلى الحفاظ على نفسه.ثانيا، الإنسان هو حيوان، وبما أنه كذلك، فهو يميل للاتحاد مع الذكور و الإناث ويعتني بالصغار الخ... ثالثا، الإنسان هو حيوان عاقل، وبالتالي هو مدفوع للبحث عن الحقيقة و العيش في مجتمع ثم تجنب السرقة والقتل و احترام والديه الخ... كل هذه المبادئ العامة تضاف على مفاهيم أخرى " ثانية" وهي نتائج قريبة.

المبادئ الثانية تحاول أن تكون قوانين طبيعية و لكن ليس لديها الحقيقة الفورية كما هو في المبادئ المشتركة وتطبيقها يمكن أن يتغير كما تتطلب الأوضاع و الحالات. توماس الأكويني يؤكد دائما : أن المبادئ الأولى هي حاضرة في قلب الإنسان دائما، بينما المبادئ الثانية يمكن أن تمحى من القلب الإنساني بسبب العادات أو الدعاية أو الفساد. ينتج من تحليل القانون الطبيعي أن هذا القانون لا يقدم سوى معايير عامة للسلوك الإنساني، إنه القاعدة الأولى العقلانية للبشر، لكنه ليس نهائيا قاعدة كافية. لا بد إذا من أن يتناسق أو يتشكل مع قانون آخر، إنه القانون الإنساني.
 
في السياسة، حدد توماس الأكويني سؤالا هاما: ماذا يمكننا أن نطرح حول النظام الذي ترتبط أو تدمج به السياسة؟ فيما يتعلق بالنظام الطبيعي، توماس الأكويني يطور بشكل جوهري بعض المواضيع الأرسطية: أولا، البعد المشترك ما بين الجماعات في الحياة الإنسانية. الإنسان هو اجتماعي بالطبيعة، شخصيته يتوجب عليها الكثير للذين بمصطلح حديث سندعوهم " مجتمعه التشاركي"، فهذه الشخصية لا تكتمل إلا داخل مجتمعها، إلا في حالات خاصة. يقول الأكويني : " من بين كل الأشياء المطلوب من الإنسان عملها، وهو الأكثر ضرورة، هم الآخرون المشتركون معه في الإنسانية". ثانيا، الطابع النوعي للتجمع أو المجتمع السياسي. المجتمع الأول الذي ينتمي إليه الإنسان هو العائلة، إنها ضرورية له بالمطلق، لكنها لا تكفي بحد ذاتها. المجتمع السياسي هو العمل أو الصنعة الأكثر تمامية للعقل العملي الإجرائي.

ثالثا،الطابع أو الصفة الطبيعية للسلطة السياسية و المكان المركزي لمسألة النظام السياسي. المدينة هي مركبة من أجزاء متغايرة. سلطة واحدة هي ضرورية لترعى خير الجميع و تحافظ على وحدتهم. كما المدينة، السلطة السياسية هي في طبيعة الأشياء. الشكل الذي هي ممارسة ومنظمة من خلاله هو الموضوع المركزي للفلسفة السياسية. رابعا، تعرف غايات ونهايات السياسة من خلال وصولها إلى الخير المشترك. المدينة هي أكبر من حاصل مجموع أجزائها، خير المدينة هو شيء آخر يختلف عن مجموع الأشياء الخاصة، إنه خير مشترك. 

نظرية الخير المشترك هنا، هي المشاركة الرئيسة الشخصية لتوماس الأكويني. الموضوع مع ذلك هو شائك وصعب لأن التناغم بين هذه الأشكال و الصيغ المبعثرة ليس منطلقا من الذات. الجوهري، يظهر أنه يحمل إلى ما يلي: الخير المشترك هو خير الجميع ولكنه غير منفصل عن خير الأشخاص. الخير المشترك هو أرقى و أسمى من الخاص و الشخصي كما هو الحال في أن الكل هو أسمى من الجزء. لكن هذا الكل ليس كيانا مميزا، يفضَّل على المواطنين، الخير المشترك ليس خير منفصل يبعد و ينحي المواطنين. الخير المشترك أو المنفعة المشتركة ليس خير أو منفعة لأنه في خدمة مجموعة من الأشخاص : فكل واحد يحصل على حياة بالاشتراك مع الآخرين، حياة منظمة مرتبة، كل واحد يحصل على المشاركة في عمل ومهمة مشتركة. رؤية الأكويني حول الخير المشترك يمكن أن تعرَّف، كما يظهر، بالشكل التالي: شكل أو طريقة في الوجود بالاشتراك بشرف في الحياة الجديدة، أي بالحياة الكريمة الشريفة وذات الفضيلة للجمهور أو الجميع. ومن أجل إقامة هذه الحياة الجديدة، سان توماس الأكويني يحدد في De Regno ثلاثة شروط ضرورية أو واجبة: على الجمهور"أن يكون ضمن وحدة المدينة من أجل السلام"، " أن يدار و يحكم و يوجه نحو السلوك الجيد"، و أخيرا، ومن " خلال التطبيق الحكومي، يجب أن يكون هناك كميات كافية من الثروات من أجل حمل الجمهور إلى الحياة الكريمة". إن المنفعة المشتركة الزمنية هي غاية السياسة ضمن النظام الطبيعي. هذه الغاية هي ذاتها منظمة ومرتبة إلى نهاية أخيرة حيث على الكنيسة القيام بذلك. لكن هذا يجب ألا ينقص من استقلالية السياسة، " الحق السماوي الإلهي الناتج عن الرعاية والعناية لا يدمر أو يهدم الحق الإنساني الناتج بدوره عن العقل الطبيعي". إذا ما فوق الطبيعي لا يدمر الطبيعي بل يرعاه، و الرعاية السماوية لا تدمر الطبيعية بل هي إكمال وتتمة لها، والله لا يدمر الإنسان لأن الإنسان جزء من ا

السبت، 15 أغسطس 2020

الثنائية بين الله والقيصر في الفكر المسيحي

الثنائية بين الله والقيصر في الفكر المسيحي 
 
في الإنجيل لا يوجد برنامج سياسي كما أنه لا يوجد في الكتب المقدسة الأخرى " القرآن مثلا "، ولا يوجد برنامج للإصلاح الاجتماعي و الاقتصادي. فالمسيح يدعو إلى تغيير القلوب، وليس للقوانين أو المؤسسات. كما أنه "نهائيا" لم يتطرق إلى مسألة النظام أو المشاكل الأخلاقية و السياسية للحروب. الإنجيل يعتني بشكل كبير بإزالة الصورة المتعلقة بالمسيح كما عرفت في السابق. فرغم التطور الروحي الذي تشهد به النصوص التوراتية وكل كلام القديسين، الفكرة القديمة عن مسيح منتصر تبقى الأقوى في داخل المجتمع اليهودي: "المسيح سيأتي ليقوم أو يكمل مهمة سياسية " إقامة المملكة الدنيوية لإسرائيل " إذا وفق ظروف الزمن، سيضع نهاية للاحتلال الروماني. ولكن هذه المهمة ليست نهائيا في شيء مما حاول المسيح إكماله.

الأناجيل تبين ذلك مع محاولات جاهدة وحذرة لتحاشي عدم الإسراف أو التشتت: المسيح لم يقبل إلا في نهاية حياته أن يحيا " كمسيح ". لقد أفشل المسيح الفخ الذي وضع له من قبل الفريسيين pharisiens،مميزا مجال عمل القيصر عن عمل الله، لقد ردَّ على الاتهامات السياسية معلنا أن مملكته "ليست من هذا العالم".إذا المسيح يبتعد عن السياسة و بشكل عام عن جميع الشؤون الزمنية الخالصة. فإذا تحدث عن الفقر، و إذا حذر الأغنياء، هذا لأن الفقر يذهب إلى الأسوأ في مرحلة " الطفولة الروحية". 

النقد هنا ليس نقدا اجتماعيا، بل يتم النقد لأن العالم أصبح خاضعا لحكم المعلمين المزيفين و الكاذبين و بسبب البؤس الروحي. ولكن هل الإنجيل ضمن هذا المعنى هو مخرَّب أو مدمَّر من الناحية السياسة ؟ 
الدين في الإنجيل، كتب جان جاك روسو: " بعيد عن ربط قلوب المواطنين بالدولة (....)، إنه يفصلهم كبقية الأشياء الموجودة على الأرض. لم أعرف شيئا أكثر منه معارضة للروح الاجتماعية ". ( من كتاب " العقد الاجتماعي"، الفصل الرابع، 8 ). مع ذلك يوجد وجه آخر للتعليم الإنجيلي. المسيح لا يرفض المدينة الدنيوية. بشكل عام، موقفه لم يكن غنوصيا رافضا للعالم: إنه يحاول شفاء المرضى، يتحدث عن جمال الخلق création، إنه يتحدث في كل كلامه عن الحياة و العمل في كل الأيام...،يدعو ويقول إن محبة الله هي محبة لمن حولنا جميعا أيضا. في النهاية إنه لا ينكر السياسة.
 


التعليم الأكثر خاصية أو الأكثر مباشرة من الناحية السياسية للإنجيل يعود إلى جملة حيث يعترف فيها بالمجال و الحقل الخاص للقيصر. الأناجيل تروي أن الفريسيين الراغبين بتعريض المسيح للخطر أرسلوا له تلامذتهم ليسألوه إذا كان مسموحا بدفع الضرائب أم لا للإمبراطور. أجاب السيد المسيح إجابة طبعت و بعمق كل التاريخ السياسي للغرب: ففي إنجيل ( متى، الجزء 22، 18 ـ 22 ) تدور القصة التالية: 
" المسيح يعرف أنهم منافقون، فيرد عليهم قائلا: لماذا تضعون لي هذا الفخ ؟ دعوني أرى أموال الضريبة، ثم قدموا له درهما أو فلسا، فقال لهم: " لمن هذا النقد الذي عليه صورة " ؟ فقالوا: " إنه للقيصر". وقتها قال لهم: " إذا أعطوا للقيصر ما هو لقيصر ولله ما هو لله ". 

" أعطوا للقيصر..."، بمعنى أولي، هذه الجملة كانت انقلابا أو ثورة. إنها تطرح مبدأ غريبا على العالم اليوناني/الروماني كما أيضا على العالم اليهودي: الدين و السياسة لهما مجالات مختلفة. القاعدة الجديدة تتعارض مع كل النظام السياسي/الديني ومع كل الحكم الثيوقراطي، إنها تكسر الوحدة التقليدية للسلطة. وبمعنى آخر هذه الجملة ليست قطيعة، بل إنها تعترف بالجزء الشرعي للسياسة. هذا الشكل ربما يفتح الباب أمام صعوبات في التفسير و الشرح ولكنه يعني بوضوح أن: المسيح لا يدعو إلى التخلي عن السياسة.وفق التعليم القاسي و المتشدد للإنجيل، يرى سان بول: " بالنسبة لنا، مدينتنا تتواجد داخل السموات، ولكن منتظرين عودة المسيح، على المسيحيين ألا يتواجدوا على هامش المدينة الزمنية".

 إذا يمكن القول أن السياسة تنتمي إلى عالم الإنسان المسيحي، وأن السلطة هي في خدمة خير لا يستطيع أن يكون هنا إلا خيرا طبيعيا. السلطة لها غايات خاصة، إنها تندرج ضمن نظام طبيعي للسياسة المرادة من قبل الله. اللاهوت السياسي الذي جاء به سان بول سيفتح الطريق أمام الفلسفة السياسية. 

وفق رؤية الرسول سان بول، هذه القضايا تبقى رغم كل شيء ثانوية بالنسبة للقضايا الجوهرية: الأمل و الرجاء بما هو فوق طبيعي وعلى الأرض هو تكوين وتطوير تجمع أتباع وتلامذة المسيح كتجمع روحي. ويبقى أن المسيحي في هذا العالم هو جزء يستحوذ في نفس الوقت على المدينة الروحية و على المدينة الزمنية. علم اللاهوت لدى سان بول أظهر تفوقه ونجاحه، ولكن الصعوبات في الشرح و التفسير ازدادت مع متابعة الزمن التاريخي وتغيرات و تحولات السياق و الصيرورة الدينية، أو بمعنى آخر انتصار المسيحية على الوثنية. وهذا ما سيقود إلى طرح أسئلة في غاية الأهمية: كيف نرى هذا الانتماء الثنائي أو هذه المواطنة الثنائية في عالم أصبح رسميا مسيحي ؟ كيف يُنظَّم تاريخ المدينة الزمنية و تاريخها الروحي؟ المدينة الزمنية أو ( مجال عمل القيصر ) لديها استقلاليتها، ولكن تشارك بالنظام الطبيعي الذي أراده الله.فما هو هذا النظام الطبيعي وكيف يمكن ترتيبه وتنظيمه مع النظام ما فوق الطبيعي؟ 
هل الكنيسة مكلفة بمتطلبات الخلاص، وهل تدافع عن النظام الطبيعي، كيف تُنظَّم السلطة الكنسية والسلطة السياسية ؟ هذه الأسئلة تتقاطع، وتاريخية الإجابة التي أعطيت عليها هي معقدة جدا. ولكن هناك عملان مسيطران، واللذان كان في أصل و أساس تقليدين داخل الكنيسة، عمل سان أوغستان و عمل سان توماس. 

فيما يتعلق بالممارسة في الميدان السياسي، هذه الممارسة حصلت على حريات مع مبدأ التمييز بين الأنظمة وهذا ظل حتى ردة الفعل الحديثة.أي منذ صعود Ascension  المسيح و بانتظار عودته .هنا كيف تُرجِم مخطط الله في تاريخ البشر؟ المسيحيون الأوائل، على ما يظهر، كانوا في معظمهم مقتنعين يوشك نهاية الزمن. مع ذلك كان هناك أمل عند سان بول، لكنه أمل حذر: لا أحد يعرف تاريخ العودة لا في اليوم ولا في الساعة. لذلك دعا إلى حياة منظمة وبعيدة عن الفوضى، كل فرد فيها يملأ واجباته الاجتماعية. منتظرين عودة المسيح Parousie، التاريخ سيستمر. هذه المتابعة للتاريخ الإنساني تستدعي تفسيرا أو شرحا لاهوتيا. فالتاريخ المقدس هو في حركة سير دائم، ولكن بأي شكل؟ 


إذا تم تبسيط المسألة، نستطيع أن نميز أو نحدد إجابتين: من جانب، نموذج من التفسير جاء قبل سان أوغستان،يطور هذا التفسير لاهوتا زمنيا للتاريخ. العناية الإلهية تصبح واضحة ومفهومة عبر التاريخ المرئي للبشر، إنها تتجسد أو يجب أن تتجسد في تلك المدينة الدنيوية. ومن جانب آخر،التفسير الذي له تأثير وسلطة داخل الكنيسة الكاثوليكية و الذي أعطي من قبل سان أوغستان في القرن الخامس. حيث التاريخ المقدس هو ذاك المصير أو القدر الروحي للإنسانية، إنه غير مرئي. في النتيجة، الكنيسة ليست مرتبطة بأي شكل تاريخي.

 إن علم اللاهوت الزمني للتاريخ أخذ أشكالا متعددة. شكله الأساسي يرتكز على رؤيا القديس يوحنا Apocalypse de Saint Jean، وهي " الألفية" Millénarisme ( وهي نظرية عند بعض المسيحيين تقول بأن المسيح سيملك الأرض لفترة زمنية قدرها ألف سنة قبل يوم قيامة الأموات ). نص يوحنا في العهد الجديد هو وصف متوقد، متوهج و مليء برموز نهاية الأزمان وهو يدور حول النظرية الألفية. هذه النظرية رفضت من قبل كبار اللاهوتيين المسيحيين، بشكل خاص سان أوغستان و الذي يقول:" إن وصف سان جان أو " يوحنا " يجب أن يقرأ كمجاز أو استعارة روحية، انتظار " الألفية" هو من غير هدف لأن ولادة المسيح هي التي لها علامة البداية". 



تفسير آخر يظهر أنه أكثر " اعتدالا" فيما يتعلق بعلم اللاهوت الزمني للتاريخ وقد تم تطعيمه بتاريخ المسيحية نفسها. ماذا تقول حقيقة هذا التاريخ المرئي؟ إنها تروي نجاحات التنصيرchristianisation. فالإمبراطورية الرومانية كانت خاضعة للدين الذي اضطهدته. هذا التاريخ ظهر كتيار في الفكر المسيحي، كظهور لإرادة الله. التقليد الشرقي رأى فيما حصل بهذه الإمبراطورية وكأنه عناية إلهية. المسيحية ارتبطت بشكل سياسي ( تحالف دائم في الشرق والذي سيحدث التحالف بين القيصر و أتباع البابوية papisme في الإمبراطورية البيزنطية).

 سان أوغستان ( 354 ـ 430)  رفض كل هذه التفسيرات لأنها من غير أساس حقيقي في الكتاب المقدس وتخالف تعليماته. إنه يتعارض مع نظرية " الألفية "، ثم يفصل قدر الإمبراطورية عن قدر ومصير الكنيسة، إنه يرفض الفكرة القائلة بأن الشرور ستختفي مع الزمن. باختصار، المسيحية الأوغستينية تتمرد على كل طوباوية،فالكمال ليس من هذا العالم. " مدينة الله " ( 427 ـ 415 ) واحد من أهم المؤلفات التي سيطرت على الفكر في الغرب المسيحي.المؤلَّف أخذ اتساعا كبيرا، عظيم في بلاغته وبيانه، لا يشكل وحدة منظمة كليا. من جانب هو كتاب لظروف وحالات، ومن جانب آخر هو توسط أو وساطة حول قدر الإنسانية على ضوء الوحي. أما الظروف و الحالات فهي: في عام 410،القوطيون Wisigoth استولوا على " المدينة الخالدة الأبدية" ونهبوها. النتائج كانت كبيرة: إنها نهاية عالم كان يبدو غير قابل للتدمير. 

فالمؤمنون بالدين الروماني القديم يتهمون المسيحيين بكونهم مسؤولين عن هذه الكارثة التي حصلت في الإمبراطورية. سان أوغستان يمسك بريشته للرد عليهم: إنه يشير إلى ضعف روما الوثنية،ثم يتحدث عن قيم الفضائل المدنية المسيحية. في الجانب الآخر من هذا الحديث و الاختلاف، إنه يفصل قدر الإمبراطورية التي هي في خطر عن قدر الكنيسة.
 
بلا شك لقد كان هو أيضا مواطنا وفيا لإمبراطوريته، ولكن كمسيحي أراد أن يقول: الدين الحقيقي لا يخضع أو لا يتضامن مع السياسة بأي شكل أو أي وقت. التعمق في تأمله وتفكيره سيقود إلى علم لاهوت عام للتاريخ. علم اللاهوت الأوغستيني " للمدينتين "، الدنيوية و الإلهية، يبين العديد من الصعوبات في التفسير ويمكن أن يفهم خطأ. سان أوغستان يستخدم تارة صيغا دقيقة، وتارة أخرى صيغا ليست كذلك، ثم يأخذ أو يعتمد كلمة "المدينة " في معان متعددة و مختلفة. بشكل جوهري كما يظهر، إنه كمن يستخدم لوحتي مفاتيح. اللوحة الرئيسة هي القدر الروحي للإنسانية:" هناك نوعين من الحب، يكتب الأسقف Hippone في فقرة مشهورة جدا، الحبان يبنيان مدينتين. حب الذات حتى أو لدرجة ازدراء الله في المدينة الدنيوية. وحب الله لدرجة ازدراء الذات في المدنية السماوية". الحد الذي يفصل بين المدينتين هو حد غير مرئي، هو من نظام و ترتيب الوحي. المدينة الدنيوية أو الأرضية لا تختلط مع الحقيقة الزمنية للمدينة الإنسانية، إنها الجزء الفاسد من الإنسانية. " مدينة الله " ليست الكنيسة المرئية، إنها تضم هؤلاء الذين اختاروا الجزء الأفضل، هؤلاء الذين، هم داخل الكنيسة ولكن أيضا من هم خارج الكنيسة يكرَّسون للحقيقة و الفضيلة. هاتان المدينتان مختلطتان بشكل كبير في هذه الحياة، كما هو حال البذرة الجيدة و الأخرى الفاسدة كما تقول الحكمة أنه لا يمكن الفصل بينهما إلا في وقت الحصاد. 
أما اللوحة الثانية هي العلاقة بين المدينة الإنسانية و الكنيسة. هنا المدينة الدنيوية الأرضية تختلط مع المجتمع السياسي و المدينة الإلهية ( بشكل أكثر أو أقل ) أيضا مع الكنيسة، أي بمعنى آخر مع مجتمع المسيحيين. بهذه المعاني، المسيحي هو عضو في المدينتين. إذا كيف يمكن تنظيم ثنائية المواطنة هذه ؟ 
إن موقع مبدأ أوغستان واضح جدا: إنه يميز وبقوة النظام الروحي و النظام الزمني، بين مجال السلطة الكهنوتية الكنسية ومجال السلطة السياسية. لكنه يعالج هذه القضايا بشكل عام ولم يعط أية نظرية دقيقة للعلاقات بين الكنيسة والدولة. بالتأكيد هو يتمنى أن المدينة السياسية تلقَّح بالمسيحية لكنه لا يرى أية ضمانة أن هذا الحل سيطبق أو سيستمر. في النهاية سان أوغستان لا يهتم إلا بشكل بسيط بالسياسة. 

السبت، 1 سبتمبر 2018

مفاهيم في السياسة المقارنة

مفاهيم في السياسة المقارنة 
*** التعقيد المؤسساتي

      من بين المفاهيم الأساسية للهندسة السياسية نجد مفهوم "التعقيد المؤسساتي " الذي يقصد به أساسا جعل فلسفة دولة ما بعد الحداثة قائمة على تقريب الإدارة و مؤسسات الدولة من المواطن ربحا للوقت و اقتصادا  للمال مما يرفع من وتيرة الأداء و يزيد من نجاعة الدولة و فعاليتها .

    فالتعقيد المؤسساتي يستدعي أساسا إعتماد مجموعة من العمليات و الشروط و منها :

-1- جعل فلسفة الحكم متمحورة حول منطق أمن الإنسان التي تقوم على حقوق الإنسان و المواطن .

-2- التأسيس لديمقراطية مشاركاتية جوارية بالتشجيع على بناء مجتمع مدني ناضج و مبادر وطنيا و محليا .

-3- جعل مبدأ المحاسبة الديمقراطية قيمة أساسية في الحكم لتحقيق العقلانية و للرفع من مستوى الفعالية.

-4- إعادة النظر في الخارطة الإدارية بتقريب الإدارة من المواطن لتلبية حاجاته و تحقيق الاستقرار السكاني منعا للتهميش و الإحباط .

-5- جعل مبادرة التنمية المحلية متمحورة حول المجتمع المدني المحلي و الإدارة المحلية المنتخبة لتحقيق سلم أولويات الحاجات الإنسانية التي يجب أن تكون بالضرورة متوافقة مع الأولويات  الوطنية .

-6- تطوير سياسة الجباية المحلية و التضامن الوطني لتمكين الإدارة المحلية من تطوير سياسات تنمية محلية عقلانية تتماشى و حاجات المواطنين و تطلعاتهم .

-7- خلق آليات مراقبة و مرافقة تسييرية في التسيير وطنية بهدف الرفع من مستوى الأداء الوظيفي للمؤسسات المحلية و الوطنية معا .

-8- إعمال آليات المتابعة القضائية عند وجود الفساد و التعسف مع المساعدة على تطوير صحافة محلية قدرة على تكريس الشفافية التسيرية على المستوى الجزئي .

       فالتعقيد المؤسساتي ، القائم على المشاركة ، التمكين و التكامل يهدف أساسا لتحقيق أكبر قدر ممكن من الحاجات محليا و دون انتظار لمبادرات مركزية قد لا تكون مناسبة مع الأولويات المحلية . هذا هو لب فلسفة الدولة الذكية التي بدأت ولاية Queensland   بأستراليا تطبيقها و الذي أصبح نموذجا عالميا يحتذى به .


***   الجودة السياسية

  من بين المفاهيم الجديدة التي أفرزتها العولمة السياسية نجد مفهوم الجودة السياسية التي تعني بمعناها البسيط بناء نظام حكم يقوم على الأداء الفعال ، على العقلانية ، على الشفافية ، على الديمقراطية المشاركتية ، على حقوق الإنسان ، و يؤمن بالتداول على السلطة ، بالتعددية،  بالمحاسبة و بالجزاء .

         فالجودة السياسية إذن هي نمط جديد للحكم ينطلق من حقوق المشاركة السياسية بأشكالها الثلاثة:

أما الشكل الأول فيقوم على -1- مشاركة سياسية دائمة تؤسس لهيكلة حزبية تعددية لها دور التأطير السياسي للمجتمع ، كما تلعب دور الرقيب في المعارضة و داخل السلطات التشريعية و القرارية.  أيضا كما  تتكون المشاركة السياسية الدائمة من مجتمع مدني فعال ، مستقل سياسيا عن السلطة السياسية و الأحزاب و يملك ذمة مالية خاصة تمكنه من المبادرة .

أما الشكل الثاني -2- فهو مرتبط بالمشاركة السياسية الدورية التي تقوم على حرية الترشح و المشاركة في إنتخابات حرة ، نزيهة ، تعددية و منتظمة حسب منظومة انتخابية قانونية و إجرائية تحدد شروط  الترشح و الانتخاب و مدة العهدة و تضمن شفافيتها و حريتها و نزاهتها .

-3- أما البعد الأخير للمشاركة السياسية فهو البعد التمثيلي الذي يقوم على مركزية السلطة التشريعية في النظام السياسي ، بدورها الرقابي و محوريتها في التشريع و دورها الفعال في المساهمة في صناعة السياسيات العامة و في مراقبة السلطة التنفيذية ، هذا على المستوى الوطني .   أما على المستويين المحلي و الجهوي فتقوم المجالس التمثيلية المنتخبة بالمبادرة في صناعة سياسات التنمية المحلية  و الجهوية بما يحقق الأولويات النفعية لسكان هذه المناطق مع احترام مبادئ المشاركة و العقلانية في التسيير .

          ونتاجا للمشاركة السياسية فنظام الجودة السياسية يعيد النظر في طبيعة النظام السياسي بتفضيل مركزية السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية ، بإعادة النظر في مفهوم الحصانة و بإعادة بناء فلسفة العقلانية ، بإعادة بناء منطق القانون حسب فلسفة حقوق الإنسان، و بإعادة محورة التنمية الوطنية حول أولويات تكاملية عمادها المحلي و ليس الوطني لتحقيق تنمية إنسانية  متوازنة ، متكافئة و مستدامة.  و هذا ما من شأنه أن يجعل من مشروعية النظام السياسي قائمة ليس على خطابات و لا رمزيات و لكن على مشاركة سياسية للمواطن من جهة و فعالية النظام السياسي من جهة أخرى .

فالجودة السياسية إذن هي حركية جامعة بين منطق المشروعية ، فلسفة التداول و عمليات الفعالية لبناء دولة الذكاء و الرشادة. 


*** العقلانية السياسية

     من بين عناصر الجودة السياسية المرتبطة بالديمقراطية المشاركاتية و الفعالية حسب المنطق العولمي لحقوق الإنسان نجد العقلانية السياسية التي تعني في معناها البسيط قدرة النظام السياسي الوصول إلى مجموعة عمليات اتخاذ القرارات و صناعة السياسات العامة حسب منطق اقتصادي- مادي قائم على اختزال الزمن و اقتصاد المال و صرفه بصفة تحقق أكبر قدر من الخدمة العامة من جهة ، كما ترتبط العقلانية السياسية من جهة أخرى بفتح مجال لمشاركة كل الفواعل الاجتماعية ، السياسية و المؤسساتية بصفة تخلق عدد من الخيارات و البدائل السياسية و القرارية للرفع من مستوى النجاعة الوظيفية و الفعالية السياسية .

فالعقلانية السياسية، من هذا المنظور، تقتضي توفر مجمل الشروط التالية:

-1- ضرورة توفر تصور توافقي حول حقوق الإنسان على المستوى الوطني بشكل يجعلها تشكل مصدرا محوريا للتشريع  تبني من خلاله أسس فلسفة الدولة و المجتمع .

2- وجود تصور توافقي لمفاهيم الخدمة العامة و الصالح العام .

-3- قدرة الفواعل السياسية و الاجتماعية من أحزاب و مجتمع مدني في التأثير في صناعة السياسات العامة و اتخاذ القرارات بتحولها لمصادر خيارات سياسية و قرارية و فواعل لتقييم مخرجات النظام السياسي من أجل تحسين الأداء الوظيفي و السياسي لنظام الحكم.

-4- توفير الكفاءة السياسية و الحنكة الديمقراطية الكفيلتين بترشيد وظائف النظام السياسي حسب منطق الفعالية ، اقتصاد الزمن و المال العام و تمكين المواطنين من حقوقهم .

فالعقلانية السياسية من هذا المنطلق هي مجموعة العمليات التي تجعل النظام السياسي أكثر حركية و فعالية و تحقيقا لحقوق المواطنين و حاجاتهم حسب منطق الإدارة بالجودة و الأهداف، و حسب منطق استشراف المخاطر و التهديدات كلها قبل بروزها و تفاقمها.   فالعقلانية السياسية هي من معايير تقييم وقياس درجة جودة النظام السياسي ، مستوى نجاعته و فعاليته و درجة  شدته الديمقراطية.   فالنظام السياسي العقلاني يضمن في النهاية درجات عالية من العدالة الاجتماعية و السياسية من جهة،  و الاستقرار السياسي المزمن من جهة أخرى .

                                                         





***  الحنكة السياسية

        من بين الأبعاد الأكثر حيوية للجودة السياسية هي تلك المرتبطة بالحنكة السياسية كمنطق عقلاني في البناء الوظيفي للدولة الذكية.  فالحنكة السياسية هي تلك العمليات المرتبطة بالاتصال السياسي الايجابي للنظام السياسي اتجاه البيئتين المجتمعية و الدولية و الهادفة ليس فقط للتلميع المجالي لصورة النظام السياسي و لكن لخلق حركيات تعبئة و دعم فعلية للخيارات السياسية و القرارية.  فهذا الدعم ضروري لتقوية الظروف الداخلية المرتبطة بالمشروعية خاصة عندما يتعرض النظام السياسي لحركيات أزموية إقتصادية و إجتماعية أو سياسية .

   كما تحتاج الحنكة السياسية أيضا لمجموعة من عمليات العقلنة السياسية المرتبطة بالتسيير الإيجابي للموارد العامة مع تحقيق حد عالي من الخدمة العامة .

فالحنكة السياسية ،إذن ،تقتضي مجموعة من الشروط التأسيسية و من بينها :

-1- وجود نظام ديمقراطي مشاركاتي قوامه الكفاءة و التنافس .

-2- توفر مجتمع مدني حركي و تعددية سياسية فعالة تساعد على إثراء الخيارات السياسية و القرارية للنظام .

-3- توفر أليات الشفافية و الرقابة و المساءلة و الجزاء .

-4- وجود آليات حرة للتعبير التعددي و الفعال.

    فمن هنا فالحنكة السياسية هي منطق مرتبط بالكفاءة ، الفعالية ،العقلانية و الإستباقية في التعامل مع المصادر التأسيسية للأزمات بشكل يضمن عدم سقوط الدولة و المجتمع في معضلات التنمية السياسية و الإنسانية، التي قد تأثر سلبا على استقرارها الداخلي ، و تجانسها الاجتماعي و دورها الدولي .  فالحنكة السياسية هي أيضا تعبير عن ثقافة سياسية ناضجة قوامها القانون و الحوار مع وجود منطق اجتماعي- سياسي يرفض احتكار السلطة و الرأي و يقر بالتقييم و التقويم من أجل التحسين المستمر في أداء النظام السياسي للرفع من درجة التمكين الإنساني و المواطني من الحقوق .

  فالحنكة السياسية، هي في المحصلة الأخيرة، صفة مرتبطة بالنضج الديمقراطي، بالحس المواطنتي و بتوفر آليات دولة الحق و القانون الضامنة لمحورية المواطن في فلسفة الدولة و المجتمع.





*** الفعالية السياسية

             من بين المفاهيم المرتبطة بالجودة السياسية و الأداء الديمقراطي نجد مفهوم الفعالية السياسية الذي يعبر عن طبيعة الحركية الاجتماعية، السياسية و الوظيفية للنظام السياسي من حيث تكريسه لمفهوم محورية حقوق الإنسان، مركزية الحاجات الأساسية للإنسان المواطن في فلسفة الحكم و مدى قدرة هذا النظام على تحقيق تمكين كلي للإنسان  من حقوقه حسب منطق جامع بين العقلانية السياسية و العدالة التوزيعية .
         
             فالفعالية السياسية تقتضي مجموعة من الشروط التاسسية و منها:

(1).وضوح دستوري و قانوني و إجرائي تام حول ماهية حقوق الإنسان، ضماناتها، حدود و آليات تفعيلها و حمايتها.

 (2).وجود نظام ديمقراطي مشاركاتي قائم على التداول، المراقبة، المساءلة و  الجزاء .

(3).وجود مجتمع مدني يشكل قوة اقتراح و آلية أساسية مساهمة في حركيتي الشفافية و العقلانية.


(4).محورية الإنسان قي مسارات التنمية السياسية و الاقتصادية.
 
         انطلاقا من هذه الشروط يمكن القول أن للفعالية أبعاد أساسية:

1-أما البعد الأول فيقوم على فعالية النظام السياسي على المستوى الاتصالي بقيامه بمجموعة من الوظائف التي تساعد على إيصال المعلومات في وقتها و بكل شفافية و على تقبل الطلبات المعبرة عن حاجات و رغبات و اقتراحات المواطنين للرفع من لأداء السياسي للنظام بجعله متفاعلا مع المجتمع حسب منطق المواطنة.

2-أما البعد الثاني فيقوم على فعالية النظام السياسي من حيث تحقيق حقوق المواطنة بجعله يضمن المشاركة السياسية التعددية بالسماح بوجود مجتمع سياسي فعال و مجتمع مدني حركي من جهة، و يساهم في تنظيم انتخابات حرة و نزيهة و تعددية و منتظمة حسب منطق الديمقراطية المشاركتية الضامن للتداول السلمي و المواطني للسلطة .

-3- أما البعد الأخير ، فيقوم على فعالية وظيفية هادفة لتحقيق حاجات المواطنين الأساسية سواء أكانت اجتماعية  ،اقتصادية أو ثقافية وذلك بجعل حقوق الإنسان محورا صانعا للسياسات العامة للدولة وهدفا في أن واح.
               فمن هنا فالفاعلية هي حركية وظيفية تنطلق من حقوق الإنسان –المواطن و تهدف لتحقيق حاجاته الأساسية السياسية و الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية بصفة تضمن للدولة الاستقرار و للمجتمع الرفاه .
















 


 *** المشروعية السياسية

   تشكل المشروعية السياسية أحد المفاهيم المحورية في العلوم السياسية خاصة بالنظر لارتباطها (كمفهوم ) بالحقوق المدنية و السياسية ، بمفهوم المواطنة و بالمشاركة السياسية الديمقراطية و بالتدول.   فالمشروعية السياسية (كمعنى و محتوى ) قد تغيرت كثيرا في ظل العولمة السياسية إذ لم تعد قائمة ، بصفة حصرية ، على وجود مصادر متفق عليها من طرف المجتمع سواء أكانت قائمة على التوريث كما هو في الملكيات ، أو على القدرة الخطابية و الشخصية الكاريزمية في الأنظمة الشمولية و التسلطية أو على وجود خيارات عقلانية عن طريق تنظيم انتخابات حتى و إن كانت شكلية .

   فالمشروعية السياسية ، بمعناها العولمي تقوم بالإضافة لحصر الشروط التأسيسية لها في وجود انتخابات حرة ، نزيهة تعددية و منتظمة بقدرة النظام السياسي على أداء وظائفه بفاعلية و أمانه  و ذلك بتحقيق أكبر قدر ممكن من الحاجات الإنسانية حسب فلسفة التمكين الحقوقي المرتبطة بالعدالة التوزيعية للموارد و القيم الاجتماعية ،و سياسية و القانونية .

    فالمشروعية السياسية ، بمعناها العولمي، تشترط مجموعة من الشروط التأسيسية و منها :

-1- وجود هيكلة دستورية، قانونية و إجرائية لتنظيم و إجراء انتخابات حرة، نزيهة، تعددية و منتظمة بصفة تجعل المواطن و مشاركته السياسية منطقا حركيا محددا للتداول السياسي.

-2- وجود تعددية حزبية تضمن التداول على السلطة مع توفرها للقدرة على المعارضة الايجابية للسلطة التنفيذية لضمان الرقابة و المساءلة .

-3- وجود صحافة حرة ،نزيهة و تعددية تضمن الشفافية.

-4- وجود كفاءة سياسية و عقلانية ترفع من الأداء و الفعالية السياسية للنظام السياسي بما يحقق تمكين كلي للإنسان من حقوقه وحاجياته
.
-5- وجود ضمانات دستورية ، قانونية ، إجرائية و سياسية تمنع من التعدي على حقوق المواطنين مع حماية الدور المواطني المنتج لنظام ديمقراطي مشاركاتي .


            فالمشروعية السياسية ،إذن ، تتمثل في بعدين :

أمل البعد الابتدائي فيقوم على تفعيل حقوق المشاركة الديمقراطية القائمة على وجود تعددية حزبية ، مجتمع مدني فعال ، و تنعكس في انتخابات حرة ، نزيهة ، تعددية و منتظمة مع وجود سلطة تشريعية تضمن الرقابة على السلطة التنفيذية .
أما البعد الثاني فيضمن  استمرار مسار المشروعية عن طريق الفعالية التي تعني تمكين الإنسان من حقوقه و حاجاته في ظل دولة الحق و القانون .











                                                                                       ***   الديمقراطية المشاركاتية

   من بين القيم الأساسية للعولمة السياسية هي تلك المرتبطة بتمكين الإنسان –المواطن من حقوقه السياسية و المدنية المرتبطة بكينونته الإنسانية من خلال تفعيل حركية المشاركتة السياسية لتجعل النظام السياسي متمحورا حول المواطن وخادما  لحاجاته الاجتماعية ،الاقتصادية ،الثقافية و السياسية .

      فالهدف من هذه الحركية التأسيسية و الشاملة هو التأصيل لنظام الديمقراطية المشاركاتية القائمة على أسس قيمية عالمية تعيد النظر بالضرورة في طبيعة النظام السياسي  ،فلسفته، فواعله ، و منطقه.  فالديمقراطية المشاركاتية تجعل من حقوق الإنسان المنطق الفلسفي و التأسيسي الأول الذي يقيم دولة عمادها الحقوق قبل القانون ،و تجعل من أمن الإنسان بعدا محوريا في أمن الدولة ، و تجعل من السلطة التشريعية عمادا محوريا للنظام السياسي و تجعل في النهاية النظام السياسي خادما للمواطن ، و المواطن و حاجاته  مصادر المشروعية ومعايير قياس مستوى فعالية النظام السياسي و درجة ديمقراطيته .

فالديمقراطية المشاركاتية تقوم بالأساس على  5 مبادئ كبرى :

  (1)- ضرورة إقامة دولة تؤمن بالحق في الديمقراطية التي مصدرها الفلسفة العالمية لحقوق الإنسان .

(2)- ضرورة تطوير و بناء دولة الحق و القانون يجعل الإنسان و حاجاته أساس منطق الحكم و العدالة .

(3)- ضرورة جعل المجتمع المدني الحلقة الاتصالية الأولى بين المجتمع و النظام السياسي .

(4)- ضرورة تطوير مفهوم الشفافية المرتبطة بالتعددية الحزبية و بحرية الصحافة .

(5)- ضرورة جعل المساءلة القانونية و المؤسساتية مرتبطة بالأساس بتقييم و تقويم السلطة التنفيذية و الهياكل القرارية المحلية بما يخدم حاجات المواطن .

      فمن هنا فالديمقراطية المشاركاتية لا تنحصر فقط في وجود تعددية حزبية أو وجود شبكة جمعوية ، و انتخابات و قواعد قانونية و دستورية تنص على قوائم حقوق الإنسان و لكن أكثر من ذلك فهي تجعل من مشاركة المواطن الدائم في الاتصال السياسي،  في الرقابة و المحاسبة أهم الشروط المنتجة للحكم الصالح المحقق لتنمية إنسانية مستدامة .


               








               




                                 
*** الشفافية السياسية

       من بين الإفرازات الجديدة للعولمة السياسية هي تلك المرتبطة بالشفافية السياسية كمنطق تسييري معبر عن مدى نضج النظام السياسي و درجة تفتحه على المجتمع و كذلك مستوى تجذر الحريات العامة فيه .

      فالشفافية السياسية لا تعبر فقط عن مدى قدرة النظام السياسي على بناء اتصال تفاعلي مع المجتمع بجعل الحق في الإعلام  حقا فاعلا و فعليا ، ولكن أيضا في وجود عدد من الميكانيزمات  التي تفرض الرقابة و التحقق من السياسات و القرارات بإسم المواطنين و حسب منطق دولة الحق و القانون.
 
         فالشفافية السياسية، من هذا المنظور تحتاج لمجموعة من الشروط التأسيسية و هي :

-1- بناء دولة الحق و القانون

-2- وجود تعددية إعلامية تتميز بالاستقلالية المهنية و النزاهة .

-3- وجود آليات رقابة و مساءلة مؤسسة في السلطتين التشريعية و القضائية.

-4- وجود مجتمع مدني يشكل الضمير الحي للمجتمع و يلعب في آن واحد حركية اجتماعية تساعد على الرقابة و التأثير الفعلي في عمليات صناعة السياسات العامة و القرارات.

         فالشفافية السياسية هي أحد أبعاد الجودة السياسية المعبرة عن مستوى النضج الديمقراطي و درجة محورية الحنكة السياسية فيه.  يقوم هذا النوع من الشفافية على 04 أبعاد أساسية:

-1- آليات الإعلام، الاستعلام و التحقيق

-2- آليات الرقابة و المساءلة

-3- آليات المسؤولية بالجزاء

-4- آليات التدقيق و التحسين الديمقراطيين.

    فمن هنا فالشفافية السياسية ، كمنطق تسييري ، يرفع من درجة تفتح النظام السياسي على المشاركة ، و كعمليات تعبر عن رغبة النظام السياسي في الرفع من أدائه و فعاليته ،و يقوم على حركية اجتماعية قانونية ، إجرائية و إعلامية تساعد على  التحسين من شدته الديمقراطية المشاركاتية .





















*** التعددية السياسية

       من بين المفاهيم المرتبطة بالديمقراطية المشاركاتية نجد مفهوم التعددية السياسية ، الذي لا ينحصر فحسب في وجود عدد من الأحزاب السياسية و لكن أيضا بقدرة هذه الأحزاب على بناء تصورات لبرامج الدولة و المجتمع تتميز عن بعضها البعض و معبرة بذلك على نضجها ، عن فعاليتها و عاكسة بالضرورة لمستوى تفاعلها مع المجتمع .

      كما أن التعددية السياسية، إضافة لبعدها الحزبي ، تقتضي وجود مجتمع مدني تعددي يتعدى مجرد كونه كتلة جمعوية ذات وظائف تعبوية ليكون مجتمعا مدنيا مستقلا عن النظام السياسي و الأحزاب و قادرا لأن يكون قوة اقتراح اجتماعية وقوة ضغط سياسية مؤثرة على الخيارات السياسية و القرارية لنظام السياسي .

  فالتعددية السياسية ،بمعناها الايجابي و الفعال تقتضي الشروط التالية :

(1)- وجود تصور دستوري و قانوني يسمح بحركية سياسية داخل و خارج السلطة مع إلغاء الشروط القمعية ، القهرية ،القصرية التي تحد من نشاط الأحزاب و قدرتها على فرض التداول و الرقابة .

(2)- وجود ثقافة سياسية تكرس قيمة المعارضة و ترفض التدجين أو التهجين السياسيين للأحزاب و الجمعيات المدنية .

(3)- وجود صحافة حرة قادرة على نشر البرامج السياسية للأحزاب كما يخلق مجالا إعلاميا حرا و فاعلا ينمي النضج الديمقراطي للنخب و الموطنين على حد السواء.

(4)- وجود هيكلة سلطوية تكرس الدور المحوري للسلطة التشريعية المنتجة للحكومات و المراقبة لها .


     فالتعددية السياسية ، إذن لا تعبر فقط على مجموعة من الأحزاب أو كتلة من الجمعيات ، و لكن هي بالأساس مؤسسة و معبرة في أن و احد لثقافة الاختلاف ، الحوار ، التلاقح الفكري و السياسي.   كما أنها تكرس التنافس السياسي من أجل تطوير آليات العقلانية السياسية ، الرشادة الديمقراطية و الحكم الراشد بما يخلق في النهاية نظاما سياسيا يؤمن بالتداول ، بالرقابة ، بالشفافية ، بالمحاسبة و الجزاء.   فالتعددية السياسية تؤسس للمشروعية السياسية بالانتخابات و الفعالية من جهة، كما أنها تؤسس أيضا لمنطق حكم يكرس حقوق المواطنة و يؤمن بالحريات العامة و يقدسها بما في ذلك حرية الرأي و التعبير و حرية المعارضة المؤسسة لحركيات التغيير السياسي حسب هندسة انتخابية تعددية تعكس طبيعة المجتمع و تبنى من خلالها ثقافة سياسية مواطنية و ديمقراطية .

فالتعددية السياسية إذن هي الركيزة الأساسية لنظام الديمقراطية المشاركاتية التي تجعل من المواطنة منطلقا لها و من حقوق الإنسان قيمتها المركزية .




















***   المجتمع المدني

         يتم التركيز في ظل العولمة السياسية، و من خلال كل برامج الإصلاح السياسي الخاصة بالمجتمعات الصاعدة ، على ضرورة تفعيل المجتمع المدني كقيمة اجتماعية معبرة عن درجة انفتاح النظام السياسي على المجتمع ، كما أنه يعبر أيضا على مدى تكريس هذا النظام لحقوق المشاركة السياسية المؤسسة لدولة مدنية عمادها حقوق الإنسان العالمية .

    فالمجتمع المدني بهذا المنظور هي قيمة اجتماعية و فاعلا اجتماعيا في آن واحد يتكرس في شبكة جمعوية تتميز بالخصائص التالية :

(1)- استقلالية وظيفة و عضوية عن النظام السياسي و الأحزاب بشكل تحولها إلى قوة اقتراح و آلية لضبط الشفافية و فرض الرقابة المجتمعية على البنى السلطوية و المؤسساتية للدولة .

(2)- استقلالية الذمة المالية لكي لا تكون عرضة للتوظيف أو التدجين السياسيين و لكن هي تحافظ على صفتها المدنية المعبرة على المواطنة المستقلة و المسؤولية .

(3)- كما تتميز أيضا بالنضج الديمقراطي و بالحس المواطني بصفة تجعلها عماد الديمقراطية المحلية و فاعلا محوريا في الديمقراطية المشاركاتية .

(4)- المجتمع المدني  بكونه شبكة من الجمعيات تتميز بالاختصاص الوظيفي سواء في ما يخص البيئة ، الصحة ، الثقافة و غيرها مما يجعلها قادرة على أن تكون شريكا و وظيفيا للقطاع الوزاري الذي يقابلها بما يسمح بتوسع احتمالات اتخاذ القرارات الأكثر توافقا مع الحاجات الخاصة بالمجتمع في الميدان المعين و هذا ما سيرفع أيضا من حركية التنمية الإنسانية المستدامة ، كما ستؤدي أيضا لتعميق النضج الديمقراطي في الدولة و المجتمع.


   لكي نطور مثل هذا المجتمع المدني، الذي يشكل الرأسمال الاجتماعي المعبر عن درجة الوعي الجماعي للدولة و المجتمع مما يقتضي بالضرورة مجموعة من الشروط ومنها:

-1- ضرورة تفعيل الدولة للهيكلة الحقوقية العالمية بما يكرس مفاهيم المواطنة ، الديمقراطية المشاركاتية ، الحاجات الإنسانية ، التدقيق الديمقراطي و الجودة السياسية .

-2- وجود قواعد قانونية مرنة تساعد على تطوير المجتمع المدني دون عرقلة سواءا فيما يخص النشاط ، التمويل أو الاستفادة من التجارب العالمية .

-3- وجود سياسة اتصالية تعددية تساعد على خلق حركية للتلاقح الفكري الضروري لبناء الحوار عن طريق تكريس فلسفة الاختلاف التي تشكل عماد الديمقراطية المشاركاتية .

فمن هنا فالمجتمع المدني هو أداة لتجسيد الديمقراطية كما أنه فاعلا في العقلانية السياسية و عنصرا محوريا في الرشادة السياسية.   فمن هنا فبناء الدولة ما بعد الحداثية  تستدعي بالضرورة دعم هذا المسار المدني حسب دينامية جامعة بين منطق الدولة و حاجات الإنسان – المواطن .













***   الديمقراطية المحلية

          تشكل الديمقراطية المحلية أحد المفاهيم الأكثر ارتباطا بالديمقراطية المشاركاتية بجعل المشاركة السياسية للمواطن في اتخاذ القرارات المحلية ضمانا أساسيا لبناء نظام سياسي عماده الموطنة ، المشاركة السياسية و الشفافية .

          فالديمقراطية المحلية بهذا المنظور تقوم أساسا على ضرورة تقريب الإدارة من المواطن و جعلها في خدمته حسب منطق الصالح العام ، ودوما منفتحة على حاجاته ، أولوياته و رغباته بتطوير شبكة اتصالية مادية وجوارية، و أخرى افتراضية –معلوماتية تتخصص في إعلام المواطنين بكل المستجدات العملية من جهة، مع فتح آليات مشاركاتية في تقديم البدائل القرارية و الاقتراحات المحلية .

    فالديمقراطية المحلية تقتضي بالتالي توفر مجموعة من الشروط و منها:

 (1)- هيكلة دستورية تكرس الاستقلالية القرارية للمكون المحلي ( البلدية مثلا ) لتجسيد الأولويات التنموية المحلية .

(2)- تمكين المؤسسات القرارية المحلية من الموارد المالية الضرورية بالسماح لها بتطوير سياسة جباية محلية قوامها العدالة و الفعالية .

(3)- وجود إطارات ذات كفاءة عالية و متخصصة  و بإمكانها أن ترفع من مستوى جودة الإدارة المحلية بما يحقق أكثر قدر من العقلانية الإدارية الجامعة بين التسيير العقلاني للمال العام مع تحقيق أعلى مستويات التنمية المحلية و الإنسانية.

(4)- وجود قواعد قانونية و إجرائية واضحة تحدد طبيعة العلاقات الوظيفية بين المكون المحلي و باقي العناصر المكونة للدولة.

(5)- ضرورة وجود مؤسسات للتدقيق المالي المحلي و آليات للرقابة المدنية و القضائية و الإدارية على تسيير الشأن العام المحلي.

    من هنا يظهر جليا أن الديمقراطية المحلية تجعل من المواطن و حاجاته ركيزة أساسية لدولة الجودة السياسية، كما تجعل من المجتمع المدني الفاعل الأكثر حيوية في التفاعل المشاركاتي للمجتمع المحلي مع آليات ومؤسسات الحكم المحلي.   فالديمقراطية المحلية ،هي حلقة أساسية أيضا في دينامكية الدولة المنطقية التي تهدف العولمة السياسية لإقرارها و تجسيدها .






*** الانتخابات الديمقراطية

        تشكل الانتخابات تفعيلا لمجموعة من الحقوق المدنية و السياسية للمواطنين التي أسسها النسق الحقوقي العالمي انطلاقا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) و العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية (1966) ووصولا لإعلان و برنامج عمل فيينا (جوان 1993) الذي أعمل حركية عولمة حقوق الإنسان و الديمقراطية .

   فالانتخابات هي بالتالي تفعيل حركي للحق في الترشح و التصويت بصفة منتظمة على خيارات تعددية.   فعقلنه الخيارات ، بالمنطق الديمقراطي ، تستدعي مجموعة من الشروط و منها : الحق في إنشاء و الدخول في الجمعيات المدنية و الأحزاب السياسية، و الحق في حرية التفكير و التعبير و التجمع و الدفاع عن القناعات السياسية و الفكرية.

           فتوفر الحركيات الدستورية و القانونية و الإجرائية الضامنة لهذه الحقوق و الحريات لا تكفي و حدها،  إذ أنها تستدعي تفعيل مجموعة من الآليات السياسية و الإعلامية و القضائية الكفيلة بتحقيق أكبر قدر من التمكين الحقوقي للمواطنين بشكل يجعله محورا مركزيا لفلسفة الدولة و النظام السياسي
           فمن هنا فالانتخابات الديمقراطية ، كما تعرفها المعايير المتعارف عليها عالميا سواء من طرف برنامج الأمم المتحدة للتنميةPNUD)  )، برنامج إدارة و تمويل الانتخاباتACE)  )، منظمة الأمن و التعاون في أوربا (OSCE) و غيرها،  تقتضي توفر أربعة محددات أساسية للانتخابات لتوصف بالديمقراطية و هي ، الانتظام ،التعددية ، الحرية و النزاهة .

     أما الانتظام فيقصد به احترام النظام السياسي لمدة العهدة المحددة دستوريا دون افتعال أسباب و ظروف "استثنائية " لتبرير تأجيل الاستحقاقات الانتخابية ، خاصة عندما تكون الدولة لا تعرف حالات من الاضطرابات الاجتماعية و السياسية . فالانتظام ، من هذا المنظور،  هو إحترام للعهد الانتخابي المحدد مجاليا و المعبر عن حق المواطنين في تفعيل حقوقهم لإحكام شروط التداول أو التغيير .

   أما التعددية ، فهي بالأساس تعبر عن حق المواطنين في الترشح في إطر حزبية أو كمستقلين .  فالتعددية هي شرط لصيق بالديمقراطية،  فغيابه يعني غياب الصفة الديمقراطية عن الانتخابات.   و التعددية شكلان: تعددية فعلية و أخرى صورية.   فأما التعددية الفعلية فهي تقوم على توفير تنافس حر دون تمييز بين الفواعل السياسية مع غياب أي شكل من أشكال التقييد للمبادرات الحزبية أو الخاصة للمواطنين.   فهي قائمة على مبدأ التساوي الفعلي في الفرص السياسي.  و أما التعددية الصورية (كحالات سوريا و تونس مثلا ) فهي تقوم على هيمنة حزب السلطة و إن دخلت أحزابا "موجهة " أو "ديكورية" ، لإضفاء نوعا من المصداقية على هذه الاستحقاقات،  فهي ديمقراطية مظهرية يغيب عنها جوهر و روح الديمقراطية التي عمادها الحرية و المواطنة .

     أما الحرية فهي تعبير عن مجموعة من الشروط الكفيلة بالمساعدة على بناء خيارات عقلانية تقدم للمواطنين من أجل إرشادهم لانتقاء المرشحين الكفيلين بإحداث الفعالية التشريعية و التنفيذية الضروريتين لإنتاج الأمن و الرفاه .  فالحرية تعني بالأساس حرية التعبير و التفكير و المبادرة ، مع ضرورة غياب أي شرط أو فعل يحدث الإكراه أو التوجيه القصري لخيارات المواطنين .  فالديمقراطية تقوم على القناعة و الإقناع ، على الاختلاف و الحوار و على تعددية الأفكار و قنوات التعبير عنها .

   فالحرية تستدعي أيضا وجود مجال حر للصحافة تبتعد عن الموسمية و المظهرية.   فالديمقراطية ليست مجرد فلكلور انتخابي قائم على الشعبوية و الوعود الزائفة و التجمهر أيام الحملات الانتخابية في التجمعات العامة و في الإذاعة و التلفزيون ، بل هي ممارسة يومية لإثراء النقاشات العامة حول هموم و آمال و آلام المواطنين لتشكيل حلقة اتصالية إضافية بين الحاكم و المحكومين من جهة ، و آلية فعلية لديمقراطة الثقافة السياسية المتمحورة حول حقوق الإنسان و المواطن و الفعالية و المحاسبة .

      أما شرط النزاهة فهو قائم بالأساس على جعل التنافس شريف و عادل بين الفواعل السياسية لإقرار قدسية حقوق المواطنة و الصوت الانتخابي للمواطن . فالنزاهة من هذا بالمنظور تشمل على مجموعة من العمليات و التي تقوم بالأساس على بناء مصداقية الانتخابات بعدم التلاعب بالقوائم الانتخابية و عدم التلاعب بصناديق الاقتراع ،عدم تزوير محاضر الفرز و الاحترام الشامل لنتائج الصندوق .

فالنزاهة تقتضي بالأساس الحياد الإيجابي للإدارة المنظمة و المشرفة على العمليات الانتخابية ،و الذي هو بحد ذاته التزام للنظام السياسي بقواعد الديمقراطية و التداول .

       فالانتخابات الديمقراطية ، من هذا المنظور تقتضي توفر مجموعة من القواعد و الآليات الضامنة لحقوق المواطن و المسهلة لديمقراطية الانتخابات و منها بالأساس تجريم التزوير ، احترام الحق المتساوي للمترشحين في الإعلام و المعلومات ، الرقابة لمواطنية و المؤسساتية للعمليات الانتخابية إبتداءا من إحصاء الناخبين لغاية الترسيم الدستوري للنتائج .

       كما تقتضي أيضا الفعالية الديمقراطية إضافة لهذه الشروط التأسيسية ، التشجيع على تداول النخب بفتح مجال المشاركة السياسية للنخب المثقفة حسب قاعدة الكفاءة و الاستحقاق المنتجة للسياسات الاقتصادية و الاجتماعية المحققة لأكبر قدر من التنمية الإنسانية المستدامة و الأمن الإنساني.   فعولمة حقوق الإنسان و الديمقراطية تستدعي بالإضافة للانتخابات و تعددية الأحزاب و المجتمع المدني عولمة المعرفة و الكفاءة أيضا .






*** الحكم الراشد

        من بين المفاهيم الأكثر تسويقا في ظل العولمة السياسية نجد الحكم الراشد (أو الحكمانية ، الحكمية عند البعض أو فلسفة إدارة شؤون الدولة و المجتمع عند البعض الأخر ).   فاحكم الراشد و إن كان مرتبطا من حيث المنطق العولمي بسياسيات البنك العالمي (منذ 1989) الهادفة لترشيد النفقات العمومية بعيدا عن الفساد الإداري و التسييري،  فإن الحكم الراشد كقيمة أصبحت لصيقة بكل أبعاد العولمة السياسية التي تهدف لبناء أنموذجا سياسيا جامعا بين حقوق الإنسان وحاجاته ، الديمقراطية المشاركاتية ، اللامركزية الوظيفية القائمة على المبادرة المحلية الناجعة ، و العقلانية في إدارة  الموارد و الوقت .

    فالحكم الراشد كفلسفة تسيير، مكملة للديمقراطية المشاركاتية لبناء نظام الرشادة السياسية، تقتضي مجموعة من الشروط الأساسية و هي :

(1)- وجود دولة الحق و القانون .

(2)- وجود تعددية المجتمع المدني و فاعليته .

(3)- وجود تعددية الرأي و التعبير الحر .

(4)- استقلالية القضاء و فعالية العدالة .

(5)- وضوح مفاهيم الخدمة العامة و الصالح العام في الخطاب السياسي الرسمي و العام .

(6)- توفر آليات الرقابة السياسية المؤسساتية و المدنية القادرة على فرض الشفافية و الجزاء .

        فمن هنا فالحكم الراشد هو النظام القائم على  المنطلقات المرتبطة بمجموعة من القيم الديمقراطية: الفعالية و النجاعة و العدالة في التوزيع المادي و القييمي،  كما أنه الأساس الذي تبنى من خلاله دولة الجودة السياسية التي تمكن المجتمع من التفاعل التعاوني بين القطاع العام والقطاع الخاص و المجتمع المدني في ظل توفر شروط التنافس الاقتصادي الشريف و في ظل توفر شروط الارتقاء الاجتماعي القائمة على الكفاءة (compétence ) و الاستحقاق (le merite)  و ليس على الرداءة (mediocrité ) و لا على المحسوبية nepotisme .

      فالحكم الراشد، و إن كان ضامنا للعقلانية في التسيير، فهو أيضا منطقا مسهلا لبروز الكفاءات الوطنية التي تمكن الدولة و المجتمع من الخروج من التخلف و الفساد على المستويين السياسي و التسيري .

  فالحكم الراشد إذن كما لخصه أب النهضة الماليزية ووزيرها الأول الأسبق الدكتور ماهاتير محمد هي فلسفة تجمع بين التسيير بشفافية باشتراك المواطن في إدارة الشؤون الدولة و المجتمع و عن طريق الحكم بأمانه لمدة زمنية معينة خدمة للصالح العام بمنطق الخدمة العامة الهادفة لتنمية محققة لحاجات المواطنين بصفة عادلة ، فبدون الشفافية ، الأمانة و العدالة.   فلن تكون الدولة  مهما كانت مواردها قادرة على تحقيق تنمية الدولة و لا المجتمع و لا الإنسان.

      فرشد حكم الأنظمة يقاس بهذه المعايير الثلاثة (الشفافية ، الأمانة و العدالة ) .














*** الرشادة السياسية

          تعد الرشادة السياسية من بين الأبعاد الأكثر محورية و فعالية في بناء النظام السياسي العولمي حسب المنطق النيوليبرالي الذي يجعل من حقوق الإنسان المنطلق  و من العقلانية الإطار العملياتي و الإجرائي الضامن للنجاعة و الفعالية من اجل تحقيق مستوى تمكين عالي للإنسان من حقوقه .

         فالرشادة السياسية هي فلسفة حكم و تسيير تجعل من الإنسان المواطن فاعلا مركزيا في بناء الدولة و المجتمع، و في نفس الوقت موضوعا لكل العمليات العقلانية الحدية و محورا في فلسفة الغايات للدولة و المجتمع.  إذ يشكل الإنسان وحاجاته منطقا ذاتيا مشكلا للخارطة النفعية للنظام السياسي .

    فالرشادة السياسية ،حسب هذا المنطق تشترط 4 أساسيات كبرى و هي :

 (1)- جعل منطق الدولة متمحورا حول حقوق الإنسان ،كرامته و حاجاته .

(2 )- جعل المنطق مكرسا لهذا المنطق الحقوقي، حاميا له و مدعما له.

(3)- بناء نظام ضمانات لمحورية الإنسان المواطن و حقوقه ببناء نظام سياسي قائم أساسا على التعددية،  التداول ، الشفافية،  الأمانة و المسؤولية بالجزاء .

و أخيرا جعل النظام السياسي هادفا للتحقيق الكلي و المتكامل للحاجات المرتبطة بذات الإنسان بشكل يحقق أمنه و يوسع من مفهومي أمن الدولة و أمن الوطن.

و بناءا على ذلك فالرشادة السياسية تجمع بين ثلاثة أبعاد أساسية :

* البعد الأول مرتبط بحقوق الإنسان المنشئة لدولة الحقوق و القانون الضامنة لتفاعل ايجابي ، عقلاني و فعال بين الحاكم و المحكومين .

*البعد الثاني مرتبط بالديمقراطية المشاركاتية التي عمادها حقوق المواطنة التي تؤسس لعمليات مراقبة و مساءلة وجزاء لمن يحكم من طرف مؤسسة تشريعية مستقلة تتميز بالكفاءة و المبادرة ، ولها القدرة على التأثير على السياسات العامة و توجيه السياسية الداخلية و الخارجية للدولة بما يتماشى و مفهومي الخدمة العامة و المصلحة الوطنية .

*أما البعد الأخير فهو مرتبط بالحكم الراشد الذي يقوم على إشراك القطاع العام ، القطاع الخاص و المجتمع المدني بشكل يجعل النظام السياسي يقوم على الشفافية و التسيير بأمانة و يهدف لتحقيق التنمية الإنسانية المستدامة بعقلانية و بمنطق العدالة التوزيعية .

        فالرشادة السياسية إذن ، هي فلسفة معيارية تهدف  لبناء دولة منطقية تعمد على تمكين الإنسان من حقوقه حسب منطق الديمقراطية المشاركاتية، الحكم الراشد وفلسفة حقوق الإنسان .



















*** الدولة المنطقية

            تعد الدولة المنطقية من التصورات الجديدة حول التنظيم السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي للمجتمعات بما يتوافق مع المنطق الحركي ، المعقد و المتشعب للعولمة السياسية.    فالدولة المنطقية تستقي صفتها "المنطقية " من مدى قدرتها على تكييف هياكلها الداخلية القانونية ، الإجرائية ، الدستورية و التنظيمية على كل المستويات : الفردية و الجماعية ، المؤسساتية و السلطوية و في كل النشاطات الإنسانية: اللإقتصادية، الإجتماعية ، السياسية ، الثقافية ، الدينية بل وحتى الرياضية بما يتماشى و المنطلقات القيمية و المعيارية للعولمة .

      فالدولة المنطقية من هذا المنظور هي نموذج للدولة المعولمة و المتوافقة مع المنظور النيوليبرالي للتنظيم السياسي ، الاقتصادي ، الاجتماعي و الوظيفي.  فهي من هذا التصور تحتوي على 05 أبعاد كلية :

 (1)- دولة تقوم على حقوق الإنسان و تعمد على تحقيق أعلى مستويات التمكين الكلي للمواطنين من حقوقهم المدنية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، و الثقافية.

(2)- بناء نمط حكم يقوم على مركزية المواطنين و اختياراتهم و قناعاتهم حسب نمط دستوري ، مؤسساتي و انتخابي يتماشى و طبيعة الدولة و المجتمع .

(3)- بناء نظام اقتصادي قائم على الحق المتساوي في المبادرة الاستثمارية للفواعل الوطنية (قطاع خاص أو عام ) و الأجنبية بصفة تخلق أكبر اندماج للدولة المنطقية في الاقتصاد العالمي .

(4)- بناء عدالة تتميز بالاستقلالية ، الشفافية ، الفعالية  وكذلك التوافق من حيث المنطلقات القانونية مع القيم و المعايير النمطية في ظل العولمة بمجمل مساراتها العالمية المتشابكة .

(5)- و أخيرا تمكين الأقليات الدينية ، اللغوية و العرقية و كذلك النساء من حقوقهم الخاصة لخلق دولة منطقية عمادها العدالة التوزيعية و التساوي في الفرص .

    و من أجل بناء هذه الدولة المنطقية يجب توفير مجموعة من الشروط و منها:

-1- بناء دولة الحق و القانون .

-2- وجود نظام الديمقراطية المشاركاتية .

-3- وجود تصور توافقي للنظام السياسي و المجتمع حول تخطي الخصوصية و النسبية للاندماج في العولمة ،دون فقدان الذات الحضارية –كما يقول المفكر الماليزي Chandra Muzzafar .

-4- و أخيرا قدرة الأنظمة السياسية الخاصة بالدول الصاعدة على تبني الإصلاحات الضرورية دون تدخل أجنبي مخل بالتجانس الاجتماعي أو بالاستقرار السياسي للدولة
و    التي تهدف لخلق فواعل وطنية أكثر اندماجا مع منطقها (أي مع منطق العولمة ) بما يسمح بجعل السيادة و الحدود مفاهيم تاريخية أكثر من أن يكون واقعا متعايشا بما يخدم المنطق التنميطي و الإدماجي للعولمة .














***   الدولة الذكية

  من بين المفاهيم الجديدة التي أفرزتها العولمة نجد مفهوم "الدولة الذكية "بالانجليزية   Smart Stateأو  l’Etat Intelligent   باللغة الفرنسية ،و الذي أصبح يطبق و لأول مرة منذ أقل من سنة في ولاية Queensland بشمال شرق أستراليا.    فالدولة الذكية يراد لها أن تكون أنضج تصور للدولة المنطقية التي تهدف العولمة بمساراتها المتشابكة لتحقيقها .

   فالدولة الذكية تستقي تسميتها من طبيعتها التي تقوم على المكونات السبعة التالية:

 (1)- دولة تقوم على المشاركة الديمقراطية التي يعد المجتمع المدني الفاعل المركزي و الأكثر تأثيرا في صناعة السياسات العامة أو في بناء التصورات القرارية .

(2)- وجود قنوات اتصال تعددية تساعد على خلق تفاعل بين السلطات و الإدارة من جهة و المواطنين من جهة أخرى بشكل تصبح الدولة شفافة و مسئولة أمام المواطنين.

(3)- وجود سلطة قضائية لها الحق في فرض الجزاء القانوني و الجنائي على كل مسؤول مهما كان المنصب الذي يشغله .

(4)- قيام الفلسفة التسيرية للدولة على الحكم الراشد .

(5)- قيام الدولة بكل مكوناتها السلطوية و المؤسساتية على منطق العقلانية السياسية الهادفة لتحقيق أكبر قدر ممكن من حاجات و متطلبات الإنسان بأقل تكلفة وأقصر وقت .

(6)- قيام الدولة الذكية على مركزية حقوق الإنسان العالمية .

(7)- و أخيرا وجود رقابة مواطنية على عمل السلطات السياسية و القرارية مع بناء شبكات اتصالية  تربط المواطنين بالمسؤولين في ظل الديمقراطية الكترونية التي تعمق من مفهوم الديمقراطية المشاركاتية .

فمن هذه المكونات، يمكن القول أن الدولة الذكية تصبو لتحقيق الأهداف التالية:

 -1- الرفع من مستوى مشاركة المواطنين السياسية و كذلك مساهمتهم في توجيه الخيارات السياسية للدولة من أجل تحقيق تنمية متمحورة حول حقوق الإنسان حاجاته و مقتضياته .

-2- الرفع من الأداء الوظيفي للدولة حسب منطق الخدمة العامة و دون هدر للموارد العمومية مع خلق آليات لإلغاء شروط الفساد السياسي ، الإداري أو التسيري .

-3- الرفع من مستوى شفافية الإدارة و سلطات النظام السياسي بما يخلق مصداقية أعمق لها ، مع خلق آليات رادعة للفساد ورافضة للرداءة أو المحسوبية .

    فمن هنا فالدولة الذكية ، هي تعبير عن رغبة ديمقراطية في تعميق الأداء الوظيفي للأنظمة السياسية و هياكلها الإدارية بما يحقق مستويات عليا من الشفافية و من العقلانية ، من الرقابة ، و من الفعالية و من التحقيق الكلي لحقوق الإنسان و حاجاته .










*** الدولة الفاشلة

 من بين المفاهيم الجديدة في العلوم السياسية و العلاقات الدولية في ظل العولمة نجد مفهوم "الدولة الفاشلة". فالدولة الفاشلة مفهوم يعبر عن الدرجة العليا لأزمة متعددة الأبعاد تعيشها الدولة :على  مستوى ضعف التنمية الإنسانية ، ضعف التجانس الاجتماعي ، غياب دولة القانون ، غياب الديمقراطية ، مع انتشار الفساد ،و التهميش ، الفقر ، المرض ، بل وحتى أحيانا المجاعة و العنف السياسي .

   فالدولة الفاشلة بهذا المنظور هي حالة من استعصاء أزمات الهوية ، المشاركة ، المشروعية و التوزيع مع عدم قدرة النظام السياسي على فرض سلطة القانون على كل مواطن و على كل شبر من الوطن.  فهي حالة دولة تعيش خارج مسارات العولمة و خارج الحركية ما بعد الحداثية القائمة على : الديمقراطية المشاركاتية، اقتصاد السوق الحر ، دولة الحق و القانون / الحكم الراشد و المفهوم الموسع للأمن الوطني الإنساني الجامع بين أولويات و حاجات الإنسان.  هذا يعني أن الدولة الفاشلة هي تلك الدولة التي فشلت في عمليات بناء الدولة ما بعد الاستعمار.  فشلت في تحقيق التنمية الإنسانية المواطنية ببقائها في عصر الأنظمة الشمولية ، و التي فشلت في تحقيق الحد الأدنى من التنمية حسب مؤشرات برنامج الأمم المتحدة للتنمية (الخاصة بالتنمية الإنسان) و التي فشلت أيضا في دمج بلدها بصفة ايجابية في مسار التفاعلات العالمية .

من بين التصورات الخاصة بحل معضلة الدول الفاشلة نجد أساسا تصورين هما:

أولا – التصور الذي يقوم على الوقاية بمحاولة احتواء مصادر الفشل عن طريق مشاركة عالمية (في إطار الأمم المتحدة و وكالاتها ) أو إقليمية (المنظمات الجهوية ) و عن طريق المجتمع المدني العالمي بتقديم المساعدات التقنية ، المادية و المالية و الإنسانية لمنع بروز  و تفاقم الأزمات (المجاعة و تأثيراتها على الاستقرار السياسي للدول و احتمال فشلها مثلا .

أما التصور الثاني – فيقوم على الاستباقية بنشر قيم الديمقراطية ، حقوق الإنسان و العدالة مع وجود آليات مرافقة عالمية لغرس هذه القيم و تطويرها لمستوى نماذج حكم منتجة لتنمية إنسانية و ديمقراطية مشاركاتية .

   فالدولة الفاشلة، إذن لا تشكل تهديدا على بقاء الدولة فقط و لكن أيضا على حياة سكانها بل قد تكون أيضا من التهديدات الأكثر خطورة و حساسية على الأمن الإقليمي بحكم الهجرة و انتشار الأوبئة بل وحتى توسيع رقعة النزاعات المسلحة.




*** الهندسة السياسية

         من بين المفاهيم الأكثر تعبيرا عن العولمة السياسية نجد الهندسة السياسية، إذ ظهر المفهوم سنة (1994) ليعبر عن طموح غربي لبناء تصور سياسي موحد قوامه حقوق الإنسان العالمية التي تنشأ  نمطية قيمية ومعيارية غربية موحدة تساعد على بروز نموذج سياسي واحد و متوافق جامع بين الديمقراطية المشاركاتية و الحكم الراشد و دولة الحق و القانون .

    فالهندسة السياسية مفهوم و منهجية تعبر عن تطلع غربي هادف لإعادة تشكيل مفهوم السيادة لتحويلها لمجرد قيمة رمزية و ليست تعبيرا عن الاختصاص الداخلي للدول ولا قاعدة تمكن الدول من تبني الأنظمة السياسية.  فالهندسة السياسية تصبو لأن تجعل الإنسان -الفرد النقطة المحورية التي تؤسس أنظمة سياسية هادفة لتحقيق حاجاته بما يتماشى و منظور حقوق الإنسان العالمية ، المتكاملة ، الرافضة للانتقاء و لا التجزئة كما ظهر في إعلان و برنامج عمل فيينا حول حقوق الإنسان 1993 .

      فمن هنا، فالهندسة السياسية ترتكز على القيم المحورية التالية :

(1)- عالمية حقوق الإنسان.

(2)- الديمقراطية المشاركاتية كنموذج حكم .

(3)- الحكم الراشد كنموذج تسيير .

(4)- مركزية حاجات الإنسان في تعريف الأولويات السياسية و القرارية للدول .

(5)- ضرورة تراجع الدول و سيادتها للسماح ببروز حكم عالمي و مواطنة عالمية .

و أخيرا ضرورة استخدام القوة المادية و العسكرية للغرب لإعادة تشكيل أنظمة حكم في العالم بما يتماشى و تصورات الهندسة السياسية .

   فبالنظر للتباين البارز و الصارخ في مستوى ارتباط الدول الصاعدة بهذا المنظور تقترح هذه المنهجية 03 تصورات أساسية للتلاؤم مع هذا المنظور :

-1- الهندسة التغييرية التي تجعل النظام الشمولي ( العسكري أو القائم على حزب الدولة ) يتحول جذريا نحو الديمقراطية المشاركاتية عن طريق الثورة المواطنتية أو التدخل الأجنبي .

-2- الهندسة الانتقالية التي تعني انتقال النظام التسلطي تدريجيا نحو نمط الديمقراطية المشاركاتية بمرافقة دولية.

-3- الهندسة التكيفية للتدقيق الديمقراطي في الدولة التي تعرف مستوى ضعيف من الشدة الديمقراطية لتكون  متوافقة فعليا مع فلسفة  حقوق الإنسان و المشاركة السياسية .

   فمن هنا فالهندسة السياسية هي منهجية تهدف لبناء نمط قيمي –معياري أساسه حقوق الإنسان و نموذج حكم قائم على الديمقراطية المشاركاتية و الحكم الراشد .